(1)
يسأل محمود درويش شطره الثاني سميح القاسم: أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟! ثم لا ينتظر إجابته.. كأنه يحفظها من فرط تكرارها، فيردف لصديقه المقاوم سؤالاً حائراً: إذن، كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟.. سؤالي غلط لأن جروحي صحيحة، هذا ما يربكني بشدة في هذه الأيام. أندفع إلى حصان الكلمة، ثم أرى نفسي فارسا من هزل على طريقة "دون كيخوتة"، يحارب في معارك لا تغير في الواقع شيئاً، لهذا تتعثر الكلمات في رأسي وأفكر في الفعل. لكن يا ترى أي فعل يستطيع أن يقوم به أعزل ضعيف مثلي لم يمسك يوماً بندقية ولا فأساً ولم يلتحق بجيوش السلاطين؛ لأنه ظل جندياً في خدمة "سلطان الكلمة"، ولم يخضع يوماً لكلمة السلطان؟
(2)
أتابع أخبار التنكيل المذل بالمعارضة من جانب سلطة القوة الغاشمة، وأفكر كثيرا في كيفية المواجهة، فأتذكر سؤال درويش وأتذكر معه أنني لم أتدرب على قيادة الطائرات الحربية ولم أراهن على العنف، برغم أنه يطاردني بشدة في هذه الأيام، محاولاً تبرير ذلك بأن "القوة الغاشمة" لا يفلها إلا "القوة الغاشمة"، حينها يظهر نيتشة في صورته المعاكسة النادرة، ليذكرني بالمقولة التي أعجبتني من حديث زرادشت: لا تحارب الوحوش بنفس أسلوبهم، حتى لا تصير واحداً منهم، وعند هذه الإشراقة النقيضة لأفكار "فيلسوف القوة"، أعود إلى سلاحي الأثير: الكلمة.
(3)
منذ دخولي للعمل السياسي، كنت أتعرف يوميا على أساليب السلطة في الحكم والتحكم، وتعلمت الكثير عن هوس السلطة في بذل الجهود للسيطرة والإخضاع عن طريق تدمير قوة المعارضين والقضاء على تأثيرهم الاجتماعي بطرق متنوعة، منها السجن، ومن مصادرة الأموال والملاحقات الأمنية، ومنها الوصم في الذمة المالية أو السلوك الأخلاقي. وحتى لا أعيش تحت تهديد هذه الاساليب، فكرت طويلا في كتابة مقال بعنوان "صندوقي الأسود"، أوفر فيه للأجهزة الأمنية وعملائها من العباسيين بذل الجهد لتلفيق و"فبركة" مواد فضائحية و"مستمسكات" يستخدمونها في السيطرة على جموحي والتخلص من كلماتي المعارضة، فمن الأفضل ألا أعيش تحت التهديد وأن أتخلص من فكرة "المفاجأة البايخة" التي تختار هذه الأجهزة توقيتها وظروفها وموضوعها، خاصة لو كانت الفضيحة التي يدبرونها "حاجة هايفة" من نوع قضية نفقة، وسرقة معزة، أو كتابة كلمتين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو لقاء مع فرد أو جماعة أيا كانت أفكار ذلك الفرد وتلك الجماعة؛ لأن هذه الأسباب "الهايفة" تجعل الفضيحة بالنسبة لي فضيحيتين، فأنا من معتنقي مقولات البارانويا العظيمة: "إن سرقت اسرق جمل، وإن عشقت اعشق قمر"، وإن عارضت عارض أكبر رأس في السلطة، وإن عزمت على التحرك ضد الحية فلا تخطط للهش والضرب، بل ركز في قطع رأسها. ولهذا قررت حرق الخطط الأمنية بإعلان صندوقي الأسود بنفسي، فلست أخجل من علاقة ولا من لقاء، ولا من كتابة، ولا من حدث في حياتي ظاهر أو باطن، كلها حياتي بما فيها من علاقات ومواقف وأحداث، ويمكنني الدفاع عن تاريخي (ومعظمه معلن) لأن الخطأ والفشل والحماقات علموني أكثر مما علمني النجاح.
(4)
بمجرد استقراري على التحرر من فوبيا "الصندوق الأسود"، فتحت خزانة المسكوت عنه وبدأت أستعرض حوادث حياتي القديمة التي تصلح للسيطرة والضغط والإخضاع، فوجدت صندوقي كحياتي كلها، ليس فيه ما يستحق تعب المونتاج ولا وقت التلفيق وتسويق الوصم. لدي غلطات كثيرة لكنها معلنة وأحب الحديث فيها، وأراها تصرفات عادية لا تصلح لشد الودن ولا جر الرجل.. حياتي كحياة الفقراء، عالية الصوت فارغة من الأسرار، وأخطائي عبيطة تؤدي إلى التعاطف أكثر مما تحرض على الزجر والعقاب. باختصار، مواطن "خيبان" لم يخدع أحداً لأنه مخدوع طوال الوقت، لم يسرق أحداً لأنه مسروق طول الوقت.
(5)
أعترف أن لدي بعض "الأحلام الكبيرة" التي تكفي لتلفيق اتهام بقلب نظام العالم، لكن الأجهزة لا تهتم بالأحلام، فكرت أيضا في علاقاتي النسائية، وقلت لنفسي تبقى مصيبة سودا، لو اكتشفوا غرامي بناتالي بورتمان، ثم تذكرت أنها اسرائيلية وليس لها أي علاقة بحماس، فاطمأن قلبي.
لهذا نفضت من رأسي فكرة الخوض في صندوقي الأسود، لعدم تضييع وقت القراء في قصص معروفة نمارسها جميعا في حياتنا اليومية، وقلت الصيت ولا الغنى.. فلنترك الأجهزة الأمنية في غيها وضلالها وتلفيقها.. خليهم فاكرين أن تحت القبة شيخ، وعدت إلى حيث بدأت متذكراً درويش (في حضرة الغياب): لاحاجة بي إلى الاعتراف، فلا سرّ لي. فضيحتي هي اللا سرّ.
وها أنا أنتظر مفأجاة خبراء الأمن، ورتوش "الدفاس" و"الرفاص" و"بلاغات حسن سبانخ المحامي"، و"فرمانات لجان المصادرة"، لأضحك كثيراً مع هزليات السلطة.
(6)
هذه السطور ليست مقالاً، لأن مقال هذا الأسبوع، صادره العسس.