هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تصدير: "الذاكرة هوية الغرباء"
من الناحية الدستورية، قد يكون من الغريب طرح هذا السؤال بعد الثورة التونسية، وبعد أن تغير نظام الحكم "قانونيا" من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني المعدّل. ولكن من الناحية الواقعية، ما زال لهذا السؤال راهنيته كلها. وللتدليل على ذلك، علينا أن نعود إلى المرحلة التأسيسية (سنة 2011) وإلى الانتخابات التشريعية والرئاسية التي حصلت سنة 2014، والتي اكتسحها نداء تونس عندما دفع برئيسه إلى سدة الرئاسة وفاز بأغلبية المقاعد البرلمانية؛ متقدما على حركة النهضة وباقي الأحزاب الأخرى.
لقد كان اختيار النظام البرلماني المعدل خطوة جيدة في سبيل القطع مع النظام الرئاسي؛ الذي تحول تحت حكم المخلوع ابن علي (ومن قبل المرحوم الحبيب بورقيبة) إلى نظام رئاسوي يستحوذ فيه ساكن قرطاج على الأغلب الأعم من الصلاحيات. ولم يكن "الوزير الأول" إلا مجرد موظف لدى الرئاسة، ولكنه مكلف بمهمة في القصبة. ولكنّ اختيار النظام الرئاسي (ومعه النظام الانتخابي للبرلمان) وضع التونسيين أمام مفارقة سياسية جديدة: سلطة تنفيذية ذات رأسين من المفروض أن يكون "رئيس الوزراء" فيها هو زعيم الحزب الأغلبي، ولكنها في الوقت نفسه تعطي لرئيس الدولة شرعية لا يمكن التشكيك فيها بحكم انتخابه المباشر من الشعب. وقد يكون هذا الوضع الملتبس سببا رئيسيا من أسباب المأزق السياسي الذي وصلنا إليه الآن.
لفهم المأزق الحالي بين رأسي السلطة التنفيذية، وللإجابة عن الاستفهام الوارد في العنوان، قد يكون علينا طرح السؤال التالي: لماذا لم يمتنع السيد الباجي قائد السبسي عن الترشح لرئاسة الجمهورية، ويبقى في زعامة الحزب الذي سيشكل الحكومة تبعا للدستور. أي لماذا فضّل السيد قائد السبسي أن يترشح للرئاسة؛ رغم علمه بمحدودية صلاحيات رئيس الدولة مقارنة بصلاحيات رئيس الوزراء؟
قد يكون طرح السؤال بهذه الصياغة "المشخصنة" أمرا يحتاج إلى تعديل، أو بالأحرى إلى تعميق. فالسيد الباجي قائد السبسي ليس "شخصا"، بل هو واجهة لمنظومة كاملة وأداة تنفيذية لعقل سياسي يتقاطع معه ولكنه يتجاوزه بالضرورة. ولذلك علينا أن نعيد صياغة السؤال على النحو التالي: لماذا اختارت النواة الصلبة للحكم قبل الثورة وبعدها (أو المُركّب الجهوي- المالي- الأمني) أن تدفع بحصانها الرابح إلى قرطاج عوض القصبة؟
في انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية، كانت النواة الصلبة للحكم تفكر بمنطق استراتيجي لا علاقة له بالقانون ولا بالدستور الذي أعقب الثورة. لقد كانت تريد أن تدفع بالسيد الباجي قائد السبسي (المسنود بشرعية شعبية ورمزية بورقيبية جارفة) إلى قرطاج، لا ليمارس دوره الدستوري، بل ليوظف ثقله السياسي ورمزيته لتعديل ذلك الدستور. كان العقل السياسي للمنظومة السابقة التي أوصلت الباجي إلى الحكم يتحرّك في نظام برلماني معدّل، ولكنه كان مسكونا، بل مهووسا، بالنظام الرئاسي أو بشخصنة السلطة لا بمأسستها. ولذلك كانت غرف العمليات المشرفة على الحملة الانتخابية تريد توظيف "الزعيم" الجديد (أو الوريث الشرعي للزعيم بورقيبة) في الانقلاب الممنهج على الثورة، وعلى نظامها السياسي الذي أصبح عائقا أمام مركزة السلطة أو شخصنتها.
منذ وصوله إلى قرطاج، لم يُخف السيد الباجي قائد السبسي رغبته في تعديل الدستور نحو نظام رئاسي، وكان يُرجع أي مأزق سياسي (وإن تسبب فيه مبادراته التشريعية ونزوات ابنه في قيادة النداء) إلى محدودية صلاحياته؛ لا إلى عدم قدرته إلى التأقلم مع هذا النظام السياسي وعجزه التام عن الاعتراف به وتجاوز تضامناته العائلية والجهوية والطبقية. لقد كان السيد قائد السبسي - وما زال - مسكونا بثقافة "الزعيم" الذي يمسك بين يديه بكل مقاليد السلطة. إننا أمام عقل سياسي "لاوظيفي" من منظور تنظيم السلطات والفصل بينها.
ورغم هذا البعد "اللاوظيفي"، فقد وجد الرئيس دعما من عدة أطراف داخل حركته وخارجها. ونحن على يقين من أن التركيبة الذهنية للرئيس والنزعات الرئاسوية - الزعاماتية التي لم تكن مشروطة كلّيا بهذا الدعم. إنها مسألة قناعات وترسبات فكرية ترتبط ببنية سلطوية كان السيد الباجي أحد رموزها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ولم تنجح الثورة في تحييد تلك القناعات أو تغييرها أو نفيها. ولا شيء أدل على ذلك من توصية الرئيس (في حواره الأخير مع قناة تلفزية خاصة) لمن يأتي بعده بضرورة تعديل النظام نحو النظام الرئاسي. إننا في حضرة "رجل دولة" بورقيبي بامتياز، دولة الزعيم ومركزة السلطات وشخصنتها، لا دولة المؤسسات وتوزيع السلطات واحترام الدستور.
رغم سعيه الدؤوب إلى تدجين رئاسة الحكومة، ورغم اختياره للسيد يوسف الشاهد على أساس الولاء والرابط الأسري - الجهوي، لا على أساس الكفاءة، فإن من مكر التاريخ أن كان هذا الاختيار هو اللحظة التي أعادت السيد قائد السبسي إلى دوره الدستوري، وقضت على نزعاته في"التغوّل" وأحلامه في "التوريث". فمهما تباينت مواقفنا من أداء رئيس الحكومة (الذي هو ابن منظومة الحكم التي ينتمي إليها رئيس الجمهورية ذاته)، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنّ "تمرده" على سلطة رئيس الدولة وزعامته، هو سلوك سياسي أقرب إلى روح الدستور مما فعله السيد قائد السبسي منذ وصوله إلى قصر قرطاج. ولكن هل يعني ذلك أننا قد خرجنا من الأزمة السياسية، أو أننا قد قطعنا نهائيا مع شبح الاستبداد مهما كان مركزه؟
مهما كانت مواقفنا من العقدة المزدوجة للسيد قائد السبسي (عقدة الوارث للبورقيبية وعقدة المورِّث للابن البيولوجي)، فإننا لا يمكن أن ننكر وجود أزمة حقيقية في تونس ترتبط - في المستوى الداخلي - بطبيعة النظام السياسي والنظام الانتخابي من جهة، وبأخلاقيات الفعل السياسي التي تتجلى خاصة في ظاهرة "السياحة الحزبية" من جهة أخرى. أمّا في المستوى الخارجي، فإن الأزمة تتمثل في أن الحقل السياسي كله ما زال مجالا مستباحا لفعل قوى إقليمية ودولية تعمل (بالتواطؤ مع النخب السياسية وغيرها)، على تعميق التبعية وتكريس منطق التبادل اللامتكافئ في ظل غياب مقومات السيادة الوطنية، تلك السيادة التي تظل رغم كل المزايدات أقرب إلى المجاز/الأفق منها إلى الحقيقة/الواقع.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية