كتاب عربي 21

السمّان.. القصة العميقة

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
ماذا يحدث في "نزلة السمان"؟

الإجابة ليست في "نزلة السمان"، كما أنها لا ترتبط فقط بما يحدث الآن، فالقصة فيها زمان وإنسان وتصور عميق للأوطان، لذلك لا يصح معها الاختزال، ولا يصح معها "التطرف" بمعنى الوقوف مع طرف ضد طرف متغافلين عن التطور وضرورة التحديث، بشرط أن تكون الدوافع بريئة وليست مجرد ذرائع للسلب والنفي.

(2)
"عيل تائه، وأهله لاقوه".. هكذا تسخر النكتة المصرية من جشع رجل خبيث لجأ لاختزال قصة سيدنا يوسف على هذا النحو، لكي لا تشغله القصة عن التهام الطعام. أعتقد أن كثيرين منا استسهلوا اختزال القصص لتحقيق أغراض خاصة؛ قد تبتعد أحياناً عن المنطق السوي للحياة التي نبتغيها، فالهجوم على السيسي ونظامه قد يبرر للبعض مناصرة العشوائية ضد التحديث حتى لا يصب "الموقف العاقل والعادل" في مصلحة النظام. وفي الجانب المقابل، يستخدم أنصار السيسي شعارات التحديث والتطوير كأفخاخ لسلب الناس حياتهم، بحيث يتحول التطوير إلى عقاب جماعي يدمر حياة الناس، لصالح حديقة أو قصر يتفاخر به حاكم يدعي الحداثة، بينما كل ما يفعله هو طلاء التخلف بألوان براقة ليخدع المستثمر والسائح بعد أن خدع وسلب أصحاب الحق.

 

يستخدم أنصار السيسي شعارات التحديث والتطوير كأفخاخ لسلب الناس حياتهم، بحيث يتحول التطوير إلى عقاب جماعي يدمر حياة الناس، لصالح حديقة أو قصر يتفاخر به حاكم يدعي الحداثة

 


(3)
القصة إذن متشابكة وعميقة الجذور، ولا يصلح معها حلول الاستقطاب بين طرفين، حتى لو كان أحدهما ضحية الآخر بشكل واضح، وإليكم القصة العميقة على غرار مصطلح "الدولة العميقة":

رأيي أن ما يحدث في "نزلة السمان" الآن، حدث من قبل في جزيرة القرصاية، وحدث في جزيرة الوراق، وحدث في مثلث ماسبيرو، وحدث في بولاق أبو العلا، وحدث في سوق روض الفرج، وحدث في بلاد النوبة القديمة، وحدث في بركة الأزبكية أواسط العصر المملوكي، وحدث ويحدث في سيناء، كما في أماكن وأحياء كثيرة استوطنها الناس حتى شاخت وتهالكت، لكن "موقعها" كان يغري السلطات بسلبها لاستخدامها في مشاريع عصرية تجلب الربح أو المفاخرة للملاك الجدد. وفي كل مرة كان "السكان الأصليون" هم العقبة التي يجب إزاحتها بأبخس الأثمان، وأحيانا بالمجان عن طريق القوة الغاشمة والتهجير القسري، وليس بالإقناع والتراضي كما يحدث مثلاً في نموذج الأملاك لصالح توسعات الحرم المكي.

(4)
في البدء كان الترحال، ولما وجد الناس شروط الإقامة الآمنة النافعة في مكان ما استقروا وأنشأوا الأوطان. إذن، حسب التاريخ فإن "الإقامة" أرقى من "الترحال"، فقد تأسس مفهوم الأوطان نتيجة لتمسك الإنسان بقطعة أرض يعيش فوقها وتحقق له شروط الحياة التي يبتغيها، وتتطور فيها علاقاته بغيره من الناس، فتنشأ مع ذلك منظومة السلوكيات والقيم والأخلاق وتبادل المنفعة، وهذا هو النواة الأولى لمفهوم "الوطن"، وبالتالي فإن أي طرد لإنسان من أرض نشأ عليه، هي محاولة سلب للوطن وتكسير لفكرة الوطنية، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور "الحرب" كوسيلة طيبة للدفاع عن الأوطان، أو كوسيلة شريرة لسرقة أوطان الغير. فقبل الأوطان عرف الإنسان القتل، لكنه لم يعرف الحرب إلا مع بدايات تبلور فكرة الأقوام والأوطان. وهذا يطرح علينا سؤالاً جوهرياً حساساً: هل يصلح هذا التقديم التاريخي كمبرر لدفاع أهالي "نزلة السمان" عن بيوتهم وأرضهم بخوض الحرب ضد سارقي وطنهم؟

(5)
السؤال صعب وحرج، لكنه مطلوب بشدة في زمن التبست فيه القيم والمفاهيم؛ لأن سارق الوطن هنا ليس عدواً من الخارج، لكنه وكيل لما يفترض أنه النظام الذي يدير شؤون الوطن الأكبر، وبالتالي يدور الحديث "الرسمي" عن نزع الأراضي لصالح منفعة عامة، أو لتحديث يفيد الأمة كلها، أو لاستعادة حقوق سلبتها جماعات خارج القانون بطريقة "وضع اليد" واستخدام القوة.

 

هذا المبرر يطرح علينا بعض الأسئلة الحرجة التي تتعلق بتاريخ الأرض في مصر، وبأنماط الملكية التي سادت عبر العصور التاريخية، وهل الأرض ملك السكان أم ملك للنظام الحاكم


(6)
لست في موضع مناقشة المبررات الرسمية لسلب الدولة لأراضي السكان، لكنني ألفت النظر إلى المعنى الكامن في المبرر الأخير الخاص بأن الدولة تستعيد الأرض ممن سلبوها! فهذا المبرر يطرح علينا بعض الأسئلة الحرجة التي تتعلق بتاريخ الأرض في مصر، وبأنماط الملكية التي سادت عبر العصور التاريخية، وهل الأرض ملك السكان أم ملك للنظام الحاكم، بحيث يستطيع أن يقرر وينزع بالقوة وبدون اتفاق يرضي المقيمين على هذه الأرض؟

(7)
التاريخ يقول أن "نزلة السمان" من المناطق الحديثة التي تشهد بتحول الترحال إلى وطن، وبتحول الراحلين إلى مقيمين، فقد كانت منطقة استراحة لحجاج المغرب العربي في رحلتهم الطويلة، ومع الوقت سكنها بعض المغاربة الذين قرروا الإقامة فيها، وكانت عبارة عن هضبة مرتفعة أسفلها بركة من مياه الأمطار وفيضان النيل، ينزل عنده طائر السمان في هجرته الشتوية، فحملت اسمها الذي سيذكرنا دائما بالترحال، كما سيجمع بين هجرة السمان وهجرة المغاربة التي حفرها اسم الشيخ المغاربي "حمد" الذي حمل لقب السمان مع الوقت، وصار قبره ضريحا للتبرك والذكرى. ومع مجيء الحملة الفرنسية وصدمة اللقاء الحضاري التي فتحت الأبواب لأسئلة التحديث ونشأة علم "المصريات"، بما صاحبه من اهتمام بالأهرامات وأبو الهول والنشاط الاستشراقي والسياحي، بدأت "نزلة المسان تكتسب أهمية اقتصادية لقربها من منطقة الأهرامات، ومع بناء السد العالي وانحسار الفيضان، حدثت توسعات ديموغرافية، ونزل السكان من الهضبة إلى السفح، ومارسوا الأنشطة المرتبطة بخدمة السياح، وذلك كله بشكل عفوي في غياب أي تخطيط من الدولة، فقد تعلّم سكان المنطقة اللغات، وأقاموا الفنادق البسيطة وإسطبلات الخيول والجمال، وأسسوا تجارة العاديات والتذكارات السياحية، وباتوا على ارتباط عضوي بالسياحة والسياح، كما تشهد مؤلفات ومعارض السياح والأجانب الذين توافدوا على المنطقة واختارها بعضهم وطنا دائماً له. لكن الدولة عندما تأتي متأخرة لا تكلف نفسها دفع ضريبة تخلفها وتأخرها، بل تسعى لحصد المكاسب التي زرعها البسطاء، ولا تخجل من اتهامهم بالتخلف وتشويه وجه مصر، وهي التهم التي يليق بأي منصف أن يوجهها للدولة التي أهملت دورها وتركت السكان يديرون حياتهم بما تيسر لهم من أدوات بسيطة ومعرفة عفوية مكتسبة بحكم التعامل، وليس من خلال التعلم والفدراسة الأكاديمية أو خطط التطوير.

 

بدأت "نزلة المسان تكتسب أهمية اقتصادية لقربها من منطقة الأهرامات، ومع بناء السد العالي وانحسار الفيضان، حدثت توسعات ديموغرافية، ونزل السكان من الهضبة إلى السفح

(8)
هل تحرك الدولة لمحو تشوهات المنطقة التاريخية صحيح أم خاطئ؟

السؤال يجيب عليه التاريخ في أمثلة سابقة، فالتحديث تم كمظهر على حساب حياة السكان، حتى أننا لا نكاد نعرف شيئا عن الفلاحين الذين كانوا يسكنون جزيرة الزمالك والشفالك، وقبلها جزيرة الروضة التي انتزعها الصالح نجم الدين أيوب لتوطين مماليكه الذين اشتراهم لحماية سلطانه من أطماع مماليك قلعة الجبل. والحال نفسه ينطبق على فلاحي المعادي والفراء؛ الذين كانوا يسكنون منطقة "جاردن سيتي" التي كانت موقعا لسكنى الخدم والطبقات الطفيلية التي تعيش على هامش قصور الأزبكية، وهذا هو ظلم و"عماء" التاريخ الرسمي في مصر، فهو يتوقف عن إنجازات الحكام التي لم تمنع استمرار تخلف المجتمع، ولم تتجاوز طبقة القشرة اللامة لتحديث زائف؛ دفع ثمنه الناس من حياتهم ومن مشاعر الانتماء والاستقرار التي ترسبت عبر أزمنة الإقامة، ثم أطاحت بها أطماع السلطة التي تسعى لاستثمار أي موقع قد يجب الربح أو الوجاهة للحكام والحاشية.

(9)
كما أقول دائماً: التحديث ضروري ولا ينبغي الوقوف ضده، لكن ليس من المسموح أن نذهب إليه على جثث الناس؛ لأن جوهر التحديث هو احترام الإنسان أولاً، وتشييد الإنجازات من أجله ومن أجل تحسين حياته، لا ضده وضد حياته، أما فرض التحديث بالقوة فهو خديعة خبيثة تزيد أزمة الثقة بين النظام والشعب، وتؤدي أحياناً إلى ردود أفعال بدائية تنال من صورة الدولة ومن أمل التحديث الحقيقي، بحيث لا يتبقى للدولة في النهاية إلا إنجازات كشواهد القبور، تثير الأسى أكثر مما تدعو للسعادة والفخر.

tamahi@hotmail.com

التعليقات (1)
mega
الخميس، 24-01-2019 11:18 م
مقال تحليلي رائع غني بالمعلومات التاريخية الخفية يعلي من قيمة الانسان ولكن ما راي استاذ /جمال في مشاركة اهالي هذه المنطقة في موقعة الجمل وشكرا