كتاب عربي 21

الكلاب لا تقرأ الدستور

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
يحكى أن غريباً وضيعاً، احتال على الأهالي الطيبين في إحدى القرى النائية، ولما اكتسب ثقتهم بعد فترة من التودد والوعود الناعمة، قام بتشكيل عصابة من الأشرار، ونجح في السيطرة على كل شيء بعد اغتياله لعدد كبير من الكبار والمتعلمين والمدافعين عن الحق في القرية. ولما استتب له الوضع شيد لنفسه قصراً مهيباً بحديقة واسعة تحيطها الأسوار العالية، وتحرس بوابتها كلاب متوحشة مدربة على الافتراس.. كانت تفتك بكل من يحاول الدخول إلى القصر، وحرص القاتل الوضيع على غرس مشاعر الخوف في نفوس الأهالي، وسعى لتحصين نفسه، فأمر بتعليق لافتات في القرية تحذر من اقتراب أي شخص ناحية القصر، لأن الكلاب لن ترحمه وسوف تمسحه "من على وش الأرض".

(2)
إمعانا في الفوبيا، كان المحتل الوضيع يأمر أعوانه بالمشي بين الناس والمبالغة في رواية حوادث الافتراس لكل من اقترب من بوابة القصر. وبالفعل، عمت حالة الفوبيا وتحول عدد غير قليل من سكان القرية إلى أتباع يخدمون رئيس العصابة ويدينون له بالولاء والنفاق، حتى أنهم اعتبروا لافتات التحذير التي كان يعلقها "دستوراً" ينظم علاقتهم بالقصر ويمنع الاقتراب منه. ولما كان أعوان الوضيع يضطرون للدخول والخروج لزوم تلقي الأوامر وتقديم الخدمات، فقد تعرض عدد منهم للافتراس، وبدأت الفوبيا تنتقل إلى أعوان الدموي الوضيع بعد أن تبين لهم أنه كان يخطط للتخلص منهم واحدا وراء الآخر، فقد سكنته الوساوس وساورته الشكوك بأن أعوانه قد يتخلصون منه في أي لحظة، فبادر بالتخلص منهم بحجج مختلفة، منها أنهم لم يتبعوا تعليمات التعامل مع الكلاب.

(3)
سرت حالة من الجدال والقلق بين رئيس العصابة وأعوانه، وطالبوه بإبعاد الكلاب حتى لا تهدد حياتهم، فرفض طلبهم مؤكداً إن الكلاب تحمي حياته هو، فلا يمكنه أن يتخلص منها، وتجرأ أحدهم فقال له: لقد خسرنا الكثير من زملائنا بسبب كلابك المتوحشة، ولا بد من إبعادها. غضب الوضيع، ونهر فرد العصابة قائلاً: أنت درست الكلام ده قبل ما تقوله؟ هذه خير كلاب الأرض، ولن أسمح لأي كائن من كان أن يتعرض لها.

بادر آخر أكثر هدوءاً وقال لزعيم المنسر: يا بوس.. نحن لسنا ضد الحفاظ على حياتك بالطريقة التي تطمئنك، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب حياتنا أيضاً، فنحن أعوانك المخلصون ونفديك بالرقاب.

ابتسم الوضيع وقال بطريقته المعروفة: ساحيييح.. عشان كده لازم نتفق أن حياتي مرتبطة بحياتكم، ولكي نضمن ذلك لا بد أن أظل آمنا في هذا القصر بعيدا عن أيدي الأوباش أهالي القرية، وغداً سوف أجد طريقة لتأمين حياتكم من الكلاب المفترسة.

(4)
انصرف الأعوان بعد اتفاقهم على تفويض المتحدث الهادئ بمقابلة زعيم العصابة في الغد للتعرف على أسلوبه في تأمينهم من الكلاب. وفي اليوم التالي، ذهب فرد العصابة إلى القصر فوجد الكلاب المتوحشة في مكانها وراء البوابة، وارتعد من نباحها العنيف ومنظر أنيابها المكشوفة المستعدة لتقطيع لحمه.

وقف فرد العصابة خارج السور ينادي: يا زعيم.. يا زعيم أين ما اتفقنا عليه؟
نظر الزعيم من شرفة القصر وقال لفرد العصابة بازدراء: لماذا تصرخ يا غبي.. لقد غيرت الدستور من أجل تأمين حياتكم.

لم يفهم فرد العصابة شيئاً، فقال: دستور إيه يا بوس اللي بتتكلم عنه.. الكلاب مسعورة ومستعدة لتقطيع لحمي.

سأله رئيس العصابة باستنكار: ألا ترى أن اللافتة المعلقة على الباب تغيرت.. لقد أمرت بتغيير اللافتات القديمة، وكتبت: "كلاب القصر لا تعض الأعوان المخلصين".. انت ما بتعرفش تقرأ؟

قال فرد العصابة: يا زعيم أنا بعرف اقرأ، لكن الكلاب هي اللي ما بتعرفش تقرأ، فما الذي يجبرها على فهم دستورك والعمل به؟ وما الذي سيمنعها من التهامي كما التهمت زملائي من قبلي؟

(5)
يومها قال عجوز في القرية الملعونة: القاتل الوضيع في قصره، واللصوص الأشرار في عملهم المفسد، والكلاب هي الكلاب، والخوف يسري في القرية حيطاناً ونفوس، فما الذي سيتغير إذا تغيرت اللافتة على باب القصر؟

(6)
لا تحدثني عن الدستور في ظل وجود الطاغية الوضيع، لا تحدثني عن بنود ونصوص لا نحصل منها إلى على الفقر والقمع والخوف والتمزق.. حدثني عن القرية المنكوبة، كيف تستفيق وتطرد اللص القاتل وتعيد صياغة حياتها بما يليق من حرية وكرامة وعدل وحياة فاضلة، فأول الدستور أن نكون مواطنين لا ضحايا، شعباً لا رعايا.

 

tamahi@hotmail.com

التعليقات (4)
طارق عوض
الخميس، 21-03-2019 01:56 م
علمنا من الزعيم ومن اهل القريه ومن افراد العصابه ومن الافته بقى الكلاب ولو كان كلب لم ينهش مواطن حاول دخول القصر عن غير قصد فقتله الزعيم ليكون عبره للكلاب لعرفناهم بس عموماً سوداء و كاكي ومكيكي ! وشكرا على الوقت الممتع الذي اقضيه مع هذا القلم
الصعيدي المصري
الخميس، 07-02-2019 09:31 م
النقطة هنا .. ليست في مدى معقولية ومنطقية ما يكتبه الموصوفون بالنخبة والمثقفين بل في مدى مصداقية ما يقولون ويخطبون مقارنة بمواقفهم الحقيقية التي تم تجربتها التجربة تثبت ان اغلب من تصدروا المشهد الاعلامي المرئي والمكتوب يقولون عكس ما يفعلون ثورة يناير المجيدة مرورا بانتخابات ديمقراطية تعددية نزيهة شهد بها القاصي والداني وصولا الى التحريض والتوطؤ على ارادة الشعب المتمثلة في اختيار رئيس مدني انتهاءا بانقلاب عسكري دموي وما نتج عنه من مجازر ومحارق واعتقالات واعدامات وتصفية خارج نطاق القانون كل ذلك رغم آلامه وسواده كان لحظة كاشفة لمدي مصداقية النخبة المصرية خصوصا والعربية عموما هؤلاء الذين يبكون على ما آلت اليه الاوضاع حاليا في مصر - من ((( المثقفين ))) بعد أن (مسهم ) الضرر هم بالأساس من ناصروا الانقلاب العسكري الدموي .. ولحسن الحظ فإن اختراعا بشريا اسمه الانترنت يقف ( مندهشا ومنبهرا بتناقض المواقف والاقول نظرة سريعة على كتابات هؤلاء تكشف مدى الزيف النخبوي الذي رسموه امام شعب حالم - كل ما أراده هو حياة حرة ينتخب فيها حاكمه أو لا ينتخبه بناءا على انجازاته واداؤه فإذا بهؤلاء يتواطئون مع الشيطان لحرق ارادة الشعب - فقط - لأنها لم تأت على هواهم ما اسها القول والتنظير للمثل والمباديء - ولكنه فرق شاسع بين كائنات تقول - وشرفاء يفعلون
الصعيدي المصري
الخميس، 07-02-2019 09:19 م
من الطرائف .. ان من يبكون الان على ثورة يناير وانتهاك الدستور والذين ملأوا الدنيا ضجيجا عن الحرية والمساواة ومازالو والموصوفين بالنخب والمثقفين على اختلاف ايدلوجياتهم .. هؤلاء كانو اول من كفر بكل مبادئه … لقد كان الانقلاب العسكري الدموي انقلابا على ارادة الشعب قبل ان يكون انقلابا على شخص الرئيس المنتخب الشرعي او البرلمان هؤلاء المنافقين فضلوا ان ينحازو ويدعمو حكم ديكتاتوري عسكري دموي انقلابي بكا ما نتج عنه من مجازر وهولوكوست بحق اتباع الشرعية .. فضلو ان ينحازو للاستبداد ضد من اتت به ارادة الشعب … فقط لانهم فشلو في ان يحوزو على السلطة بإرادة الشعب فتوهمو انهم سيحوزونها بأن يسلمهم اياها العسكر الان .. عادوا ليملأو الدنيا ضجيجا عن مبادئهم القديمة في اول تجربه حقيقية لافعالهم لا اقوالهم
متفائل
الخميس، 07-02-2019 12:18 ص
و أول الدستور أن تكونوا فعلا مصريين ، حتى لا يترعرع بين ظهرانيكم مثل هذا الغريب المحتال الوضيع ، أما وان المحتال بات رئيسا ، والشعب أصبح رعية ، والمواطن صار ضجية ، فليس أمام النخبة المصرية إلا أن تصوم عن الكلام لبرهة من الزمن ، فتتواصل و تتكامل و تتعاون ، ولن تعود إلى الكلام حتى تتوافق ، حينها فقط يكون للكلمة مفعولها و للحركة أثرها ، طبتم و طاب ممشاكم و البركة كل البركة في مسعاكم.