كتاب عربي 21

حمار الانقسام (مقالات الحريق-4)

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
من أحرق أبديرا؟

لم يفهم هشام عشماوي السؤال، ولم يفهمه الناس أيضا، لذلك أعيد طرح السؤال في هذا المقال بصياغة أوضح قليلاً: من أحرق العراق؟ ومن أحرق سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان؟ ومن يحرق مصر الآن؟

اختلف سكان أبديرا على الإجابة، وانقسموا (كعادتهم) إلى فريقين متشاحنين: فريق يبرئ عشماوي من الحرائق ويعتبره إطفائياً و"بطل إنقاذ"، وفريق يهاجمه؛ مؤكداً أنه مجرم من مشعلي النيران في أبديرا العزيزة!

(2)
لكن ما هي "أبديرا"، وما علاقتها بأحوالنا؟

يقول المؤرخون إن "أبديرا" مدينة إغريقية صغيرة نشأت قبل 27 قرناً من الزمان، وكان اليونانيون القدماء يضربون المثل بحماقة سكانها وفساد حكامها ونخبتها من المحامين والقضاة والكهنة. وبالرغم من وجود فلاسفة ومفكرين بين سكانها، مثل لوسيبوس وديموقريطس وبروتاجوراس، إلا أنها ظلت طوال تاريخها محل هجاء ومضرب المثل بالحمق والغباء والفساد والانقسام. فقديماً وصفها جوفيناليس (شاعر روما الساخر) بأنها مدينة مأفونة، كل ما فيها فاسد، حتى هواؤها وترابها. وحديثاً هجاها معلم التنوير الألماني كريستوف مارتن فيلاند في روايته المظلومة "Geschichte der Abderiten" أي "حكاية الأبديريين"، أو بترجمة أخرى "تاريخ أهل أبديرا"، وهي الرواية التي استوحى منها السويسري الشهير فرديدريش دورينمات حكايته الإذاعية "قضية ظل الحمار" التي تحولت إلى مسرحية رائجة على معظم خشبات الدنيا.

(3)
يحكي دورينمات بطرافة الكوميديا السوداء؛ عن طبيب أسنان يدعى "ستروثيون"، هاجر إلى "أبديرا" في فترة مبكرة من حياته، وقضى أيامه يلعنها ولا يجد فرصة لتبديلها. وفي مفتتح المسرحية نسمعه يسأل حانقاً: من ذا الذي يستطيع العيش في أبديرا؟.. من ذا الذي يطيق الحياة هنا؟.. إن أبديرا في واقع الحال كارثة: سكان حمقى، وبيوت عشوائية، وحارات قذرة، وانحطاط أخلاقي وعقلي، ومعبدان منقسمان ضد بعضهما البعض، ومستنقعات.. وليس في هذه المستنقعات إلا الضفادع، وأنا أكره الضفادع كراهيتي للانحطاط.

في أحد الأيام الحارّة، كان على الطبيب أن يذهب لخلع ضرس العقل لمدير جمعية تجارة العبيد في مدينة "جيرانيا"، على مسافة ثلاثة أيام بالحمار من "أبديرا"، ولما كانت حمارته في إجازة بعد ولادتها جحشا هزيلا، فقد ذهب الطبيب إلى السوق مبكراً، واستأجر حماراً من "انثراكس" الذي رافقه في الرحلة..

وعند الظهيرة، بعد أميال من مغادرة المدينة، لم يتحمل الطبيب لهيب الصحراء، ولم يكن هناك أي شيء يستظل به، فأمر الحَمّار بالتوقف ونزل ليجلس في ظل الحمار، لكن انثراكس اعترض وطالبه بدفع ثمن ظل الحمار، موضحا أن الأجر يخص الحمار فقط وليس ظله. ونشب الجدال بين الطرفين: الطبيب يؤكد أن استئجار الحمار يشمل الانتفاع بظله، هكذا يقول المنطق، وانثراكس مصمم على أن الحمار شيء وظله شيء آخر؛ يستوجب أجراً إضافياً. ويتصاعد الخلاف ويتمسك كل منهما برأيه، فتنتهي الرحلة بالفشل؛ لأنهما قررا العودة وعرض الخلاف على حاكم المدينة "فيليبيدس"؛ الذي يتشدق بمبالغات لغوية عن العدل والسلام. وفي البداية يطلب من الطبيب تعويض الحَمّار بأربع قطع عملة نحاسية، ولما يرفض ستروثيون يعلن تحويل القضية للمحكمة، ويأمر بمصادرة الحمار لحين حسم الخلاف، وتدخل المحامون للدفاع، وكل فريق يناصر الطرف الذي انحاز إليه ويغريه بكسب القضية مع تعويضات مالية كبيرة، وبعدها يطلبون أموالا لزوم المصاريف والأتعاب، فيضطر الحَمّار لبيع أثاث بيته ثم ابنته وزوجته، وكذلك يخسر الطبيب مدخراته ويبيع عيادته. فقد كبرت القضية وطالت، وانقسم المجتمع كله حولها وانشغل الناس بقضية الحمار والظل، ولم يعد هناك حديث سواها، فتعطلت المصالح أكثر. وتدخل الكهنة لتكريس الانقسام، حيث انضم أنصار معبد الضفادع (لاتونا) إلى الحمّار، وانضم أنصار معبد الديوك (جاسون) إلى الطبيب، ولجأ كل فريق إلى استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بما فيها الرشاوى الجنسية التي فكرت فيها "كوربيل"، زوجة الحمّار، عن طريق استخدام غانية لمراودة الكاهن، والتي قدمتها زوجة الطبيب بنفسها، ولما حاول أنصار انثراكس فضحها، تضامن معها أنصار ستروثيون ووصفوها بالطهر والعفاف؛ لأن السقوط من خصال الفقراء وليس الأغنياء.

(4)
حرص دورينمات على حشد تفاصيل كثيرة تبرز الانقسام الكارثي في المجتمع، كنتيجة للانحطاط العقلي والأخلاقي وإعلاء المصالح النفعية للأفراد على مصلحة المدينة. فالمحامون ورجال القضاء لا يهتمون بقانون ولا عدالة؛ قدر اهتمامهم باستحلاب المال من جيوب المتنازعين، ورجال الدين يلعبون لعبتهم في الابتزاز والاستحواذ. فالكاهن مثلا ناقم على الطبيب، ليس لاسباب أخلاقية أو انحيازاً للعدل، بل بسبب قلة عدد الناس الذين كانوا يذهبون إلى الكاهن للتبرك وتقديم النذور لتخفيف آلام أسنانهم؛ لأن معظمهم أصبح يذهب إلى الطبيب للعلاج، والحاكم يستغل القضية لإحكام قبضته أكثر، وتفريق خصومه بالانقسام والصراعات التي أغرت اللصوص والقراصنة بدخول المدينة واستغلال الفوضى التي انتهت بحرب أهلية أحرقت أبديرا تماماً، ومع ذلك ظل الانقسام برغم الخطر وبرغم الحريق. فأنصار فريق الظل يمنعون إطفاء بيوت خصومهم، وكذلك يفعل أنصار فريق الحمار، بينما يتمكن الحمار نفسه من الفرار بعد احتراق المبنى المحتجز بداخله. وقبل أن يهرب الحمار خارج المدينة يتوقف ليسألنا في ختام المسرحية: بعد كل ما حدث اسمحوا لي أن أسألكم: هل أنتم متأكدون أنني الحمار الوحيد في هذه المدينة؟

(5)
مشكلة أبديرا لم تكن بالتأكيد في ثنائية "الحمار وظله"؛ لأن هذه القضية نتيجة لأوضاع قميئة موجودة ومنتشرة في نفوس الحكام والسكان، المشكلة في فساد الحكم وفساد النخبة، وكذلك في فساد وحماقة قطاعات غبية من سكان المدينة، الذين زرعوا الكراهية واستسلموا للانقسام فيما بينهم، فكان من الطبيعي أن يحصدوا الحريق والخراب. ففي تقديمه للقضية (مثلاً) يوضح الطبيب تأففه من جهل وقذارة الحَمّار، ويسخر من عقيدته الدينية وانتمائه لمعبد الضفادع المقدسة، وفي المقابل، يعبر الحمّار في تقديمه عن قدر أكبر من الكراهية والعنصرية ضد الطبيب ويصفه بأنه "كافر"؛ لأنه سكير لا يؤمن بالضفادع، بينما هو (الذي يحتال للحصول على أجر أكبر من الطبيب مقابل ظل) "أنا الوطني.. الذي يؤمن أن لا شيء يعلوا فوق أبديرا"، وأعتقد لو أن أنثراكس عاش بيننا اليوم لسمعناه يردد "تحيا أبديرا" ثلاث مرات، كما يرددها الحكام الفاسد فيليبيدس  وحاشيته

(6)
لا يهمني إن كنت من فريق هشام عشماوي أم ضده، يهمني أن تنظر للإرهاب كظل للأنظمة القمعية الفاسدة، ويهمني أكثر أن نتجنب فخ الانقسام، ونتجنب التورط في هذه الحماقة مهما توفرت الذرائع والمغريات التي يحرضنا عليها إعلام وسياسات أبديرا

* احذروا الانقسام... الانقسام حريق في الطريق

 

tamahi@hotmail.com

التعليقات (2)
الصعيدي المصري
السبت، 01-06-2019 06:16 م
.. بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر على السلطة الشرعية التي مثلت إرادة الشعب .. انقسم داعموا الانقلاب ممن ( يطلق عليهم ) الإعلاميين والنخب والمثقفين والسياسيين على اختلاف توجهاتهم إلى 3 أقسام .. الأول هو من استمروا على دعمهم لنظام الانقلاب وهؤلاء قد حصلوا ومازالوا على اختلاف مواقعهم على امتيازات معينة من النظام الانقلابي العسكري .. النوع الثاني .. هم من ظنوا بأنفسهم بأنهم على قدر من الموضوعية والشجاعة وأرادوا أن يثبتوا ذلك – لفترة لم تطل – لمتابعيهم ومريديهم .. باعتبار أنهم انتقدوا وعارضوا بل ودعموا الانقلاب على السلطة المنتخبة لأنها حسب ما روجوا له كانت سلطة فاشلة – وهاهم لا يهابون الخروج عن الدائرة الخضراء التي حددها لهم حليفهم السلطان الجديد – فإذا بهم يفاجئون بأن اليوم غير الأمس .. فغيروا جلودهم ومنابرهم إلى برنامج ترفيه واكتشاف مواهب والبحث قي أصل مشكلة شيماء مع هيفاء .. أو برنامج آخر عن عصير الطماطم والأكل الصحي أو برنامج ثالث عن عصير الكتب بطعم أرشميدس و المنفلوطي و نجيب الريحاني وتاريخ الجبرتي .. أو حتى بعيدا عن وجع دماغ قد يتسبب في هلاكهم .. النوع الثالث .. هم بعض الأكاديميين والمثقفين .. ممن استمروا في التنظير لذات القيم والمبادئ التي انقلبوا عليها عمليا .. معتمدين .. ربما على الظن بأن كثير من قرائهم له ذاكرة السمك .. هذه الذاكرة التي تضع برزخا متضادا غير مفهوما لترجمة هذه المبادئ مرة في الواقع العملي الذي مارسه المنظرون - وأخرى على النقيض في صفحات كتب الدرس التي يدرسونها لطلابهم أو ينشروها في مقالاتهم وتحليلاتهم وتفلسفاتهم ..
ظبيه الهاشمي
السبت، 01-06-2019 03:01 م
رائعه تصف الحال في كل انحاء الوطن الكبير.. من المحيط الى الخليط... بوركت

خبر عاجل