قضايا وآراء

الإسلام والرجم (6): منسوخ التلاوة.. حقيقة أم وهم؟!

عصام تليمة
1300x600
1300x600

ناقشنا من قبل ما ذكره من يحتجون في أن الرجم حد من الحدود، بأنه إن لم يذكر في القرآن الكريم صراحة، فقد ذكر في ما سمي بآية الرجم، وناقشنا صحة ثبوت هذه الآية التي قالوا: إنها كانت في القرآن، ثم نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، وهذا يضطرنا لنقاش الموضوع الأساس: هل هناك قرآن كان موجودا، ومتلوًّا، ثم نسخت تلاوته، سواء بقي حكمه أم لم يبق؟ 

للأسف هذا الموضوع لم ينل حقه من النقاش والتمحيص في تراثنا الإسلامي القديم أو المعاصر، إلا لماما من بعض العلماء، ربما لأنه كموضوعات كثيرة لم تكن متماسة مع قضايا فقهية وفكرية ملحة، فمر عليه القدامى والمعاصرون مرور الكرام، دون تدقيق فيه، سواء من حيث دراسة أسانيد ما يقال عنه: أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته. مع ما يمثله الموضوع من أهمية لأنه يتعلق في الفقه بنقاش حول عقوبة الزنى، وحول: وجود قرآن لم يعد له وجود في المصحف. 

ولم أجد من العلماء من تناول الموضوع بكتابة تفصيلية نقدية للأسانيد والمتون، إلا عالمين اثنين معاصرين، أولهما: الشيخ عبد الله الغماري، في رسالة جعل عنوانها: ذوق الحلاوة بامتناع نسخ التلاوة، وهي رسالة مختصرة صغيرة نافعة، وثانيهما: العلامة محمد الصادق عرجون، وهو الأكثر كتابة وإسهابا في الموضوع، في كتابه: (محمد رسول الله) في الجزء الرابع منه، من ص: 65، وحتى ص: 132. ثم قرأت مؤخرا عنوان كتاب للدكتور أحمد نوفل، ولم أطلع عليه كاملا، بعنوان: (نسخ التلاوة بين النفي والإثبات).

 

علماء قالوا بوجود قرآن متلو ثم نُسخ 

وسوف نذكر أولا ما قيل إنه كان قرآنا متلوا ثم نسخ، ثم نعقب عليه بنظرة نقدية للأسانيد والمتون.

1 ـ عن أَنس بن مالك: أن رِعْلًا وذكوان وعُصَيَّة وبني سُليم استمدوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، وكانوا يَحْطِبُون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم، وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رِعْلٍ وذَكْوَان وعُصَيَّة وبني لِحْيَان. قال أَنس: فقرأنا فيهم قرآنًا، ثم إن ذلك رفع: "بلغوا عنا قومنا، أنَّا لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا".(1)
 
2 ـ عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى عمر يسأله، فجعل عمر ينظر إلى رأسه مرة، وإلى رجليه أخرى، هل يرى عليه من البؤس شيئا؟ ثم قال له عمر: كم مالك؟ قال: أربعون من الإبل. قال ابن عباس: فقلت: صدق الله ورسوله: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"، فقال عمر: ما هذا؟ فقلت: هكذا أقرأنيها أبي، قال: فمر بنا إليه. قال: فجاء إلى أبي، فقال: ما يقول هذا؟ قال أبي: هكذا أقرأنيها رسول الله صلم الله عليه وسلم. قال: أفأثبتها، قال: نعم فأثبتها.(2)
  
3 ـ عن كثير بن الصلت قال: كنا عند مروان وفينا زيد بن ثابت، قال زيد: كنا نقرأ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة). قال: فقال مروان: أفلا نجعله فى المصحف؟ قال: لا، ألا ترى الشابين الثيبين يرجمان؟ قال: وقال: ذكروا ذلك وفينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أنا أشفيكم من ذاك. قال: قلنا: كيف؟ قال: آتي النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فأذكر كذا وكذا، فإذا ذكر الرجم أقول: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم. قال: فأتيته فذكرته. قال: فذكر آية الرجم. قال: فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم. قال: "لا أستطيع ذاك".(3)  

هذه ثلاثة نماذج لما قيل عنه آيات من القرآن، نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، ولكل نص من هذه النصوص روايات مختلفة، لكن المقام لا يتسع لذكر كل المرويات، ولا كل الروايات في كل نص.
نظرة نقدية للأحاديث من حيث الصحة:

إن معظم النصوص التي سقناها هنا والتي قيل عنها: إنها كانت آيات تتلى ونسخت تلاوة، ولم تعد مكتوبة في المصحف، ولكنها قرآن منسوخ التلاوة، كلها من حيث السند وجدت من يحكم بصحة سندها، ومنها ما روي في البخاري، ولكن العلماء الذين ناقشوها ورفضوها، ذكروا بقاعدة حديثية مهمة: إن صحة السند، لا تعني صحة المتن، فقد يكون سند الحديث صحيحا، ولكن هذا لا يعني صحته متنا، لأن العلماء وضعوا خمسة شروط لصحة الحديث، منها ثلاثة في السند، وشرطان في المتن، ليس مقام التفصيل في هذه الشروط هنا. 

كما أن القرآن يثبت بالتواتر، والتواتر ليس شرطا في الحديث النبوي. لكن القرآن على العكس، فهو يثبت بالتواتر، ولا يقبل أن توضع في القرآن آية إلا أن تكون متواترة، وهو ما لم يتوافر فيما قالوا عنه: منسوخ تلاوة، فكلها أحاديث آحاد.

 

إن صحة السند، لا تعني صحة المتن، فقد يكون سند الحديث صحيحا، ولكن هذا لا يعني صحته متنا


وكذلك الحديث يروى بالمعنى والقرآن لا يجوز فيه ذلك، ولذا تختلف روايات الحديث، وتجد في كثير من الأحاديث روايات متعددة للحديث الواحد، وهو ما دل على اختلاف عبارات النصوص المنسوبة للقرآن المنسوخ التلاوة، فتارة تجد العبارة مختلفة عن الأخرى، نعم يوجد في القرآن القراءات، ولكن القراءات لا تتغير الكلمة، بل يتغير في النقاط والتشكيل، فمثلا: (فتبينوا) تجد قراءة: (فتثبتوا)، أو في التشكيل، مثل: (مَالِك يوم الدين) في قراءة حفص، وقراءة: (مَلِك يوم الدين) في قراءة ورش، وهو ما وضعه علماء القراءات كشرط لصحة القراءة: أن يكون موافقا للرسم العثماني. 

نظرة نقدية لمتون هذه الأحاديث

أما النقد الذي وجه للمتن، ونفي أن هذه النصوص كانت قرآنا، وأنها لا علاقة لها بالقرآن تماما، وليست قرآنا بالأصل، فضلا عن أن تكون آيات ونسخت، ومن أهم الردود التي رد بها العلامة الشيخ محمد الصادق عرجون، أنه قارن بين صيغ ما ادعي بأنه آيات تلاوة منسوخة، وبين آيات القرآن الكريم الموجودة في المصحف، من حيث نظمها، وعباراتها، ونصاعة بيانها، وهو ما لا يتوافر فيما ادعي أنه آيات منسوخة التلاوة. 

فالنص الأول (بلغوا عنا قومنا) فعندما تقارنه بآيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) المائدة: 119،118. وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة: 8،7. المقارنة بينهما تجد فارقا كبيرا في اللغة والفصاحة.

وكذلك النص الثاني: (لو أن لابن آدم واديان) فقد قارن بينه وبين قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) الفجر (15-20).

أما النص الثالث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) فقد قارنه بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور(2).

 

فتح هذا الباب، بدون دراسة وتمحيص، والوقوع في تأييده، بشكل غير مدروس علميا، يفتح بابا خطيرا للتشكيك في القرآن وصحته


كل هذه المقارنات، تحكم بلا شك أن ما ادعي أنه قرآن ونسخت تلاوته، لا يثبت بأي درجة من الفصاحة، مقارنته بالقرآن الكريم، ولا يرقى إليه، بل بينهما بعد كبير، ينفي صحة هذا الكلام قرآنا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه عند ثبوته، فهو وحي، من باب السنة النبوية، وليس من باب القرآن الكريم.

حادثة لمستشرقة مع سيد قطب

كان الشهيد سيد قطب رحمه الله، في رحلته إلى أمريكا، وكان على متن سفينة، ومعه عدد من المسلمين، فطلبوا إليه أن يخطب بهم الجمعة ليصلوا على متنها، ففعل، وكانت هناك امرأة غربية غير مسلمة، سمعت معظم خطبته، وبعد الخطبة سألته: يا أستاذ، لقد لاحظت في كلامك شيئا عجيبا. قال سيد: ماذا لاحظت؟ قالت: لاحظت أن كلامك ينقسم إلى مستويات ثلاثة من الفصاحة والخطاب. 

فهناك مستوى عالي جدا، شعرت وأنا أسمعه، أنه يخاطب الروح والعقل، ويرتقي بهما، ويرتفع، وهو عبارات قوية، تهز مشاعر السامع. وهناك مستوى آخر، يقترب منه، لكنه ليس مثله، بل أقل منه درجة، لكنه فيه من نفس الروح التي كانت في المستوى الأول. ثم رأيت مستوى ثالثا، ليس من مستوى الأول ولا الثاني، لكنه جيد، وقوي، فهل لك أن تفسر لي ما هذه المستويات المختلفة في خطابك.

فقال سيد قطب: أما المستوى الأول الذي أشرت إليه، فهو آيات من القرآن الكريم، كنت أستشهد بها، وهو بالأوصاف التي ذكرت، وأما المستوى الثاني، فهو أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أدنى درجة من حيث الأسلوب، ولكنها من نفس المشكاة وقريبة منها، وأما المستوى الثالث، فهو كلامي، فأنا أديب عربي، أتكلم العربية بلغة أدبية.

فهذه امرأة غربية، غير مسلمة، وغير عربية، استطاعت أن تميز بين أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب الحديث النبوي الشريف، وذلك عن طريق حاستها، وذائقتها.

خطورة هذا الباب على القرآن

وإن فتح هذا الباب، بدون دراسة وتمحيص، والوقوع في تأييده، بشكل غير مدروس علميا، يفتح بابا خطيرا للتشكيك في القرآن وصحته، ويجعلنا نقع في شيء خطير، فإذا كنا ننكر على ما يزعمه بعض الشيعة من وجود مصحف سموه (مصحف فاطمة)، فنأتي نحن السنة، لنجعل: (مصحف عمر) أو: (مصحف عائشة)؟!

وهو ما يفتح بابا للتشكيك في القرآن وثبوته، وقد قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر(9)، وهو الكتاب الذي بذل فيه المسلمون كل جهدهم لخدمته، بداية من إثباته، وثبوته، والحرص على كل حرف فيه، وكل شكل، حتى رأينا علوما تخصصت في المصاحف فقط، من حيث إثبات ما فيها، وعلوما في القراءات، وإعراب القرآن، فضلا عن تفسيره وبلاغته وإعجازه. فمثل هذا الموضوع والتسليم به هو أوسع باب يدخل منه التشكيك، والطعن، وهو باب غير موجود أساسا، ولا يستسيغه نقل ولا عقل.

علماء كبار رفضوا منسوخ التلاوة

وقد رفض منسوخ التلاوة عدد من العلماء، سواء من القدامى أو المعاصرين، كابن رشد، والعلامة الشيخ محمد الخضري إذ يقول: (أنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها، لأن القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز بنظمه فما هي المصلحة في رفع آية منه مع بقاء حكمها، إن ذلك غير مفهوم، وفي رأيي أنه ليس هناك ما يلجئني إلى القول به).(4)
  
ورفضه كذلك: العلامة محمد رشيد رضا، (5) العلامة الطاهر ابن عاشور، (6) والدكتور صبحي الصالح (7)، والعلامة الدكتور مصطفى زيد (8)، والدكتور أحمد نوفل (9)، والشيخ عبد الرحمن الجزيري (10)، وآخرون(11)، وكنت في لقاء قريب مع شيخنا العلامة القرضاوي، فرفضه، ودار نقاش قصير حوله.

الهوامش:

1 ـ رواه البخاري (4090) والبغوي في شرح السنة (3790) وأبو يعلى (3159).
2 ـ رواه أحمد في مسنده (21111) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم (35/41).
3 ـ رواه البيهقي في السنن الكبرى (16995) والطيالسي (615) وأحمد (21596) والنسائي في الكبرى (7145) وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة: هذا إسناد رواته ثقات (8/142). وقال محققو مسند أحمد: رجاله ثقات رجال الشيخين غير كثير بن الصلت، فقد روى له النسائي، وهو ثقة (35/473).
4 ـ انظر: أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص: 259.
5 ـ انظر: مجلة المنار (12/693).
6 ـ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (1/663) و(18/149).
7 ـ انظر: مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص: 265.
8 ـ انظر: النسخ في القرآن لمصطفى زيد (1/285).
9 ـ انظر: نسخ التلاوة بين النفي والإثبات لأحمد نوفل ص: 7.
10 ـ انظر: الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري (4/231).
11 ـ معظم هذه الإحالات للرافضين، نقلناها عن مقدمة الأستاذ مصطفى الحمداني لكتاب: (ذوق الحلاوة بامتناع نسخ التلاوة) للغماري، ص: 6-13.

Essamt74@hotmail.com

التعليقات (2)
أبو صلاح
الخميس، 26-05-2022 08:30 ص
مشكور شيخي مع اني اعارضك في كثير من اطروحاتك ولكني اقف مع الحق عندما اعتقد أنه الحق والله اعلم باب نسخ التلاوة باب شر يستخدمه معادي الدين وقد يؤدي للتشكيك بالقرآن نفسه وربما الكفر به وأكاد أجزم عقلا ومنطقا وقلبا أنه لا يوجد نسخ تلاوة والله اعلم
مصطفى الحمداني
الأحد، 25-08-2019 09:51 م
جزاك الله خيرا على دفاعك عن كتاب الله