كتاب عربي 21

حرب دينية برائحة الجاز والفولاذ

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
يعيش العالم في نوبة حادة من الجنون، الجموع في كل الأنحاء تصرخ بطريقة البابا أوريان الثاني: إنها الحرب..

مرت قرابة الألف عام على "خطبة النار"، لكن نيرانها لم تخمد بعد، بل تبدو عفية كبركان يمتلئ قلبه بالحمم المهلكة. فالحشود التي اجتمعت في حقول كليرمون الفرنسية لا تزال تنتظر الغفران والمجد والطعام الذي وعد به البابا، ولا يهم إن كان المقصد هو بيت المقدس في فلسطين أم غاز شرق المتوسط وحقول النفط في ليبيا ونيجيريا والجزائر وغينيا وغيرها.

المصيبة الأفدح أن جموع كليرمون التي كانت بعشرات الآلاف، صارت الآن بمئات الملايين، واستنسخت أزماتها وآمالها وتوقها للحلول، وانتشرت نيرانها كالوباء في كل الأنحاء، وصار الناس مثل الحطب الجاف.. مواد هشة قابلة للاشتعال السريع، لا فرق بين أسود وأبيض، بين أرميني وأذربيجاني، بين تركي وفرنسي، بين ديني وعلماني. كل طرف يصرخ في وجه الآخر دفاعا عن "مقدساته"، كل طرف لا يصرخ فقط للدفاع، بل يصرخ وهو يقتل ويهاجم ويرتكب ما يرفضه.. الأسود يقتل اعتراضا على قتل الأبيض الذي يقتله باسم الأمن وتحت غطاء من القانون، والمواطن المسلم يقتل دفاعاً عن دينه وعن رسوله، والجندي الفرنسي يقتل دفاعاً عن دولته وعلمانيته وشعار ثورته الذي تتصدره الحرية!..

كيف يمكن أن نفهم هذا الخلط، وهذا الجنون؟

كيف يمكن أن نتخذ موقفاً عاقلاً عادلاً لا يساوي بين القاتل والمقتول نتيجة حرص كل منهما على قتل صاحبه؟

(2)
لن أنطلق من مقدساتي، حتى لا أبرر للآخر أن يشهر مقدساته في وجهي ويطلق رصاصات ثقافته على رأسي، وتظل كل جثة في خندقها بلا حوار ولا جوار، لهذا أضع حديث الرسول الكريم عن "القاتل والمقتول" في خلفية الذاكرة، واثقاً بأن معظمكم يعرفه ويعرف معناه، وأستخدم حديث نيتشة منطوق بلسان زرادشت والذي قال فيه: "لا تحارب الوحوش بنفس أساليبهم، حتى لا تصير واحداً منهم".

لكن هل يعني هذا أن أبسط يدي ولا أقتل الوحش الذي يهجم عليّ ليقتلني؟

تبدو المشكلة معقدة، لكنني على كل حال أحب الاجتهاد في المشاكل المعقدة..

(3)
يعيش العالم في نوبة حاجة من الجنون، قد توحي هذه العبارة بالوصف الذي أطلقه أردوغان ضد ماكرون فأثار غضب وإدانة قادة أوروبا، من دون أن يعتبروا كلام أردوغان محمي بحق "حرية التعبير"، لكن المقصود هو وصف جوستاف لوبون لخطبة البابا أوريان الثاني التي أشعلت الحروب الصليبية، وأدت إلى حالة الهيستيريا الجماعية بين الحشود التي توافدت على جنوب فرنسا وشكلت رأس الرمح وعقيدة الاستيلاء الأوروبي على فلسطين "أرض المقدسات"، وهو ما يفيد في فهم كيفية نشأة "إسرائيل" باعتبارها الدولة التي تحقق مضمون ومطالب خطبة أوريان التي صرخ فيها آمراً المحتشدين المأزومين المستلبين: انهضوا واتجهوا إلى فلسطين، اتخذوا طريقكم للضريح المقدس، وأنقذوا أرض المسيح من ذلك الجنس اللعين الذي طغى وبغى فى تلك البلاد، إنه أمة نجسة أبعد ما يكون عن الله..

(4)
لم يكن السيد المسيح كافياً (وحده) لإقناع الجياع بالحرب، فأضاف البابا ما يكشف عن الهدف العميق القادر على إشعال حماس وإرادة وتطلعات الجموع:

"إنهم هناك هناك يعيشون في ثراء ونعمة، يلوثون ويدنسون الأماكن المقدسة، وأنتم تسكنون بلادا ضيقة تحيط بها البحار والجبال لن تكفيكم بعد ذلك بالطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً في الحروب الداخلية.. تخلصوا من نزاعاتكم واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا الأرض الغالية من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، إنها فردوس المباهج وقلب العالم، ومهد المسيح الذي يستغيث بكم لإنقاذه، فأغيثوه تتخلصوا من ذنوبكم وتنالوا مجداً لا يفنى في ملكوت السماوات".

(5)
لا أريد أن أكون "أورياناً" يسعى لتأجيج النار من أجل أهداف سياسية أو دنيوية تحت ستار ديني، أريد أن أناقش المشكلة بتوازن إنساني، لذلك أفضل استخدام الأفكار والحوادث العلمانية والتاريخية المرتبطة بالغرب، بدلا من قصفه بالقنابل الدينية التي يحتمي منها في خنادقه، لهذا أعود إلى مقال كتبته قبل ست سنوات إلا قليلاً تعليقا على حادثة الهجوم على مجلة "شارلي" التهكمية وقتل عدد من محرريها.

وإعادة نشر المقال لا تستلزم تغييراً كبيراً، إذا يكفي أن نحذف اسم "هولاند" ونضع اسم "ماكرون"، ويكفي أن نتذكر سياق الحادثة الأولى وتوابعها التي تكررت في الحادثة الحالية، لنفهم أن القضية عالقة منذ خطبة أوريان وحتى اليوم، وأن حديث بوش عن "حرب صليبية" في العراق لم يكن "زلة لسان"، بل عقيدة كامنة في "السبليمنتال الغربي" كشفها اللسان بطريقة عفوية. وهذا يعني أن المشكلة القديمة تتكرر نتيجة وجود قناعات في الرأس وفي التاريخ الغربي المسيحي (كما العربي الإسلامي)، وهذه القناعات لم تغيرها الشعارات المرفوعة عن التسامح والتعايش، بل استخدمت الحوادث لتكريس العداء والتضاد والتمايز، لذلك لم يحدث الانتقال المرجو الذي يطابق الشعارات الأممية المرفوعة عن التسامح الديني والتعايش الكوني واحترام معتقدات الآخر.

فالغرب يعاقب المواطن الذي يتبول في بيت جاره أو يقطع شجرة أو يشخبط على جدار حكومي، بينما لا يحترم مقدسات الآخرين ويطلق عليهم النار إذا تجرأوا على "قداسة الدولة". وحتى لا أطيل أضع أمامكم (باختصار بسيط لتجنب التكرار) المقال المنشور في كانون الثاني/ يناير عام 2015 تحت عنوان "إذا تجلى تولى".

(أ)
كثر الحديث عن "شارلي" حتى صارت الصحيفة الباريسية الساخرة أيقونة جادة للحرب على الإرهاب، واجتهد أصحاب المصالح والمشاريع في تصويرها كأنها "11 سبتمبر فرنسية"! بصرف النظر عن التحليلات السياسية والأمنية التي تطرفت بين من يراها "مؤامرة" ضد الإسلام دبرها الموساد الإسرائيلي أو يهود أوروبا عموما، ومن يراها "مؤامرة" من المهاجرين الإسلاميين ضد الليبرالية وحرية التعبير في الغرب المعادي للإسلام، بل إن بعض الليبراليين يرونها أيضا "مؤامرة" لحشد الدعم مع نظام هولاند المتداعي، والذي ابتعد عن خط الاستقلال الفرنسي وارتمى في أحضان الناتو، وأصبح أداة عسكرية لواشنطن، كما ظهر في ليبيا ومالي والتحالف الكاريكاتيري المتأخر ضد داعش!

(ب)
ما يعنيني في هذا المقال هو الخلاف المستعر حول ثنائية "القداسة وحرية التعبير"، ومحاولة تصوير الأمر في بديهية نهائية تقر بوجود غرب متنور يدافع عن الإبداع والحرية في مواجهة إسلام متخلف مضاد للإبداع، متورط في القمع والقتل كأيديولوجية و"جهاد" معا.

هذه البديهية تبدو صحيحة في ظاهرها، لكنها خاطئة من الناحيتين المعرفية والواقعية أيضا، ومع ذلك نالت (للأسف) اعترافا واسعا في العالم كله حتى بين المثقفين، فهناك من كتب بحسن نية عن ضرورة مراعاة مشاعر المسلمين، لأنهم على عكس الغرب لديهم حساسية في تصوير نبيهم، حتى لو لم تكن الرسوم مسيئة، فالتصوير نفسه ممنوع ليس للرسول محمد فقط، لكن للأنبياء عموما، بل ولبعض الصحابة والشخصيات الدينية، وهناك من تحدث عن سماحة الغرب في قبول الإساءة والسخرية للمسيح، مع أن المسلم الذي يغضب من أجل محمد يجب أن يغضب من أجل عيسى وموسى وأي نبي، طالما الأمر يتعلق بعقيدته التي تؤمن بالله وجميع أنبيائه ورسله.

(ج)
هذا الخلط الإعلامي يبعدنا عن أصل القضية، ويدخلنا في متاهة حشد التبريرات أو الادعاءات، فهناك من أرهق نفسه بالبحث عن وجود صور للرسول في مخطوطات إسلامية قديمة ترجع إلى القرنين الـ12 والـ13 الميلاديين، وهناك من تحدث عن عدم وجود نص صريح في القرآن والسنة يمنع تصوير الرسول والأنبياء، وهناك من تحدث عن أوصاف الرسول في الكتب القديمة منذ كتاب الترمذي عن "الشمائل المحمدية"، واعتبر أن شيوع هذه التوصيفات هو نوع من التصوير الذهني، وبالتالي لا يوجد مانع من تجسيد هذه الرؤى الذهنية في تصاوير مطبوعة أو تماثيل. بل بالغ البعض واعتبر أن فكرة منع التصوير دليل على التخلف والتراجع الحضاري الذي ظهر مع انتشار السلفية الوهابية (وهو قول ساذج يخالف الشائع الثابت في التاريخ قبل ذلك بقرون)!

(د)
ما المشكلة إذن؟

وكيف يمكن أن نفهم جذور هذه الأزمة؟

وما المدخل الموضوعي المناسب للتعامل معها؟

بهدوء يمكن القول إن فكرة منع التصوير عموما ليست إسلامية، ومن العبط أن نحاول إثبات ذلك، فهو أمر معروف في تاريخ الفنون، بل وفي الواقع، حتى إن أمريكا نفسها ما زالت تفكر في تعديل قانون "منع التصوير" والذي يتضمن تجريما للتصوير في أماكن حكومية أو عسكرية، أو حتى تصوير الشخصيات دون التزام بقواعد معينة، وقبل فترة قصيرة تقدم النائب الجمهوري في الكونجرس، ستيف ستوكمان، بمشروع قانون يعتبر التصوير ضمن نطاق حرية التعبير، ويطالب فيه فيه بعدم اعتقال المصورين أو مصادره معداتهم خلال أداء عملهم في الأماكن العامة والمباني الفيدرالية، لكن القانون المقترح لم يقر ولم يناقش حتى الآن!

وفي فرنسا لعلنا نذكر أن الممثلة جولي جاتيه، صديقة الرئيس الفرنسي هولاند والتي تسببت في طلاقه من السيدة الأولى، قد كسبت قضية ضد مجلة كلوزي الشعبية لأنها التقطت لها صورا داخل سيارتها، اعتبرتها المحكمة اعتداء على الخصوصية والحرية الشخصية التي يكفلها الدستور للمواطن العادي.

هذه هي فرنسا التي تتميز بين دول العالم بمحكمة عجيبة (نورمبرج) تحظر المساس باليهود، وتعاقب أي شخص بتهمة ابتزاز وإخضاع تسمى "العداء ضد السامية"، بل إن أوروبا (التي صارت كلها شارلي) تعاقب كل من يرفع يده بطريقة تشبه تحية النازي، حتى لو كان لاعبا في مباراة لكرة القدم لا يقصد أي معنى سياسي!

(هـ)
فكرة المنع إذن ليست لوثة إسلامية، بل أقول إنها فكرة لازمت الإنسان حتى قبل نزوله للأرض، فهناك محظور لا يجب الاقتراب منه: شجرة محرمة، الغرفة رقم 40، جرة باندورا السحرية، أو حتى حضرتك وأنت تحذف صورك التي لا ترضيك وتعتبرها مسيئة.

ويمكنك أن تتأمل شيوع أساليب الرتوش والفوتوشوب، ووضع محددات صعبة لنشر صور النجوم والسياسيين.. إلخ، وهذا يعني أننا جميعاً نمارس الحظر كل يوم، ولا نفعل ذلك لأسباب دينية أو سياسية، ولا علاقة للتقدم والتخلف بالأمر، فقط أنت تريد أو لا تريد، فلا يجب أن يصورك أحد عنوة، ولا يجب أن ينشر صورتك عنوة، فبعضنا يعتقد في فضل الكتمان والحجب. وبعضنا كالعراف الإغريقي في الغرب وصاحب الكرامات في الشرق يفضل العماء ويجد السحر والقوة في الإخفاء، فإذا ظهرت الكرامة اختفت العلامة، وهناك من يعتقد أن السحر كما السر.. إذا تجلى تولى، والقداسة كما التفرد.. إذا شاع ضاع.

(و)
مسألة الحظر إذن تخضع للذوق والقوانين السارية، وبما أن الذوق والقوانين مسألة نسبية ونوعية وتختلف تقديراتها من مجتمع لمجتمع ومن شخص لشخص، فإننا في زمن العولمة وفسيفساء التعايش الاضطراري الذي صار عليه العالم الحالي يجب أن نضع مجموعة من المعايير ذات الطابع الإنساني العام لتنظيم القضايا العمومية، مثل حقوق الإنسان والحريات والفقر، واحترام الاديان والمعتقدات.

إذا قال أحدكم إن هذا موجود بالفعل، يصبح السؤال:

من يخالف هذه القواعد والمواثيق الدولية؟

وإجابتي اليوم ولدي ما يكفي لإثباتها:

إنه الغرب نفسه..

لذلك أستطيع أن أحكم عليه، بحكم القواعد والمواثيق الأممية التي صنعها ويرعاها بمؤسساته، بل ويفرضها على العالم بإنه مخطئ، واستفزازي، وعنصري، ويستحق العقاب.. قد أختلف مع جرعة العقاب، وأتفق مع كل من يدين أن يصل العقاب إلى القتل، خاصة أن الغرب يجتهد فعلا لإلغاء عقوبات سلب الحياة (الإعدام) حتى للمجرمين والقتلة، لكن هذا الأمر ما زال حتى الآن يدخل في إطار النسبية. فجرائم الشرف في الشرق قد تكون مبررا للقتل، فيما ينظر إليها الأوروبي باعتبارها حرية شخصية، وأحيانا ضرورة تربوية وتعبير عن الارتقاء الثقافي والاجتماعي.

(ز)
باختصار، لا يحاول أحد هنا أو هناك أن يوصمني بما فيه وفي ابناء آدم جميعا، علينا أن نفكر في الاحترام، احترموا عقيدتي، وأحترم عقيدتكم، لا تستفزوني ولا أستفزكم، لكم تاريخكم وأفكاركم، ولي تاريخ وأفكار، لكم دينكم ولي دين، وعلى الباغي تدور الدوائر، فانتصروا للعقل والعدل، ولا تزهقوا الحقائق بالعويل والتهويل..

(ح)
انتهى المقال القديم المتجدد، آملاً أن نتلمس طريقنا إلى حل المشكلات العالقة، لنجد جديدا نكتبه عوضاً عن الدوران في الكلام المعاد واجترار الماضي لتغطية تمزقات الحاضر وعورة المستقبل.

tamahi@hotmail.com
التعليقات (1)
ظبيه الهاشمي
السبت، 07-11-2020 01:16 م
معك في كل ماطرحت...