هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الجوانب التي تبقى من المرحوم المستشار طارق البشري، وينبغي على الأجيال تعلمها، جوانب كثيرة ومهمة، سواء ما يتعلق منها بالعلم، أو ما يتعلق بالخلق والقيم، وقد كتب كثيرون عن مواقف خلقية وفكرية عن الرجل في حياته، وبعد وفاته.
لكن من أبرز وأهم ما يتميز به البشري هو: نقده الدائم لذاته وفكره ومسيرته، فالمتتبع لكتابات البشري يلمح ذلك، فمن أوائل كتبه كتابه الشهير (الحركة السياسية في مصر)، وهو كتاب استغرق منه خمس سنوات حتى أنهاه، تناول فيه تاريخ الحركة السياسية في مصر بين عامي 1945 و1953م. وخرج الكتاب في طبعته الأولى، وبعدها بدأ في إجراء مراجعة لما كتبه، ونقد ذاته وقلمه، فأجرى مراجعات مهمة في الكتاب.
وقد كان البشري بين أمرين، أن يجري التعديلات على ما كتب، أو يبقي المادة التاريخية كما هي، ولكن يكتب مقدمة مطولة يبين فيها ما تم من مراجعات، ومال للأمر الأخير، فكتب في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، فراجع فكره وقلمه في عدة أمور، أهمها: موقفه من الحزب الوطني الجديد برئاسة الكاتب والسياسي الكبير الأستاذ فتحي رضوان، وموقفه من الإخوان المسلمين.
اعتذر البشري عن عدم تناوله لفتحي رضوان وحزبه بما يليق به وبنضاله، وإن تناوله في الكتاب في سياق أحداثه، لكنه أحس بتقصير علمي بأنه أخطأ بتجاهل الحديث المستقل عن الحزب ودوره، ونعت البشري صنيعه بالعوار والنقص العلمي، واستدرك ذلك في طبعته الجديدة.
أما ما كتبه عن الإخوان في كتابه، فقد انتبه أولا لما كتبه عن طريق انتقاد أحد أصدقائه لما كتبه عنهم، وقد أجاب البشري بإجابة ألمح إلى أنها ليست مقنعة، حتى قال له أحد أصدقائه معقبا عليه بقوله: (إنك نظرت في كل التيارات فأخذت وتركت، إلا الإخوان، يشعر قارئك عنهم بروح الخصومة)، ظلت هذه الكلمة تحوك في صدر البشري، ثم راجع نفسه ونقد ذاته فقال: (استطعت بقدر ما واتاني البصر، أن أنظر في كل من التيارات الأخرى من داخله، أتفهم بعضا من همومه وشواغله وبواعث حركته وطرائق استجابته. ولكني لم أفعل ولا واتاني البصر بشيء من ذلك مع الإخوان. كنت خارجيا عنهم. ولم يتح لي فكري سبيل الولوج من بابهم لأدخل دارهم وأتطلع إلى شواغلهم. استخدمت مع غيرهم الموزاين والمكاييل والتحاليل. وقستهم هم بالمتر، أو بالشبر والفتر).
ثم عاد البشري فأعاد ميزان الإنصاف والعدالة لموضعه المعهود فيه، فكانت طبعة كتابه الثانية وما تلاها، معبرة عن ميزانه الدقيق، وقلمه النزيه، ليثبت بذلك أنه رجل يكتب للحقيقة التي تخرج من داخله، أصاب أم أخطأ، لكنها قناعته التي وصل إليها بعد بحث ودرس، وليست كلمته النهائية، فإن مراجعاته ونقده الذاتي، لا يجعله يقف عندما كتب، بل يراجع، ولا ضير لديه من التراجع والاعتراف بما بدر منه، والإعلان بشجاعة عن ذلك، وعن موقفه الجديد.
سر نقد البشري لذاته، وإعلانه عن مراجعاته الفكرية، هو أن الرجل يمتلك رصيدا كبيرا من الشجاعة، وقد لمحت ذلك في موقف غير مشهور له، فمعظم من يطلع على مشروع البشري الفكري يقرأ كتبه ومقالاته، ولا يهتم لمقدمات الكتب التي كتبها البشري لمؤلفين آخرين، فقد حوت هذه المقدمات رؤى فكرية شجاعة، واجتهادات جريئة صدرت منه.
إذا كان الموقف السابق صدر عن البشري في كتاب ضخم، صار مرجعا في موضوعه، فله موقف آخر مهم، يوضح بجلاء هذا السلوك لدى البشري، فبعد أحداث سبتمبر وضرب البرجين في أمريكا، أعلنت أمريكا عن حربها ضد أفغانستان، ويوجد في جنود الجيش الأمريكي جنود مسلمون، وهنا ثار تساؤل عن حكم اشتراك الجندي المسلم الأمريكي في معركة يقتل فيها مسلمين في أفغانستان.
عندئذ كتب الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله صيغة سؤال، وتواصل مع الدكتور محمد سليم العوا، والدكتور هيثم الخياط رحمه الله، فكتبا فتوى بناء على المعلومات التي وردت إليهما من العلواني، بصيغة تجيز للمسلم الاشتراك مع الجيش الأمريكي بحكم عمله فيه كمجند، وأن رفض الأمر هنا كما فعل الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي، ربما يعرض الوجود الإسلامي في أمريكا إلى نظرة سيئة، ويهدد وجودهم وأوضاعهم.
ثم وقع على الفتوى الأستاذ فهمي هويدي مع العوا والخياط، ووقع معهم البشري، ثم أرسلت الفتوى للدكتور يوسف القرضاوي، فوقع معهم على الفتوى، ولم يكن القرضاوي قد أطال النظر في الفتوى، ثقة في من كتبوها، وهم أهل ثقة، ولكن التقديرات وقتها لم تكن صحيحة.
هاجت الدنيا، وتناول موقع إسلام أون لاين، الذي يرأس إدارته القرضاوي، الفتوى، وانهالت الردود على أصحاب الفتوى جميعهم، فلا يشك أحد في دينهم، ولا ورعهم، ولكن المسألة تتعلق بعدم صوابية الرأي، فهي تتعلق بدماء المسلمين، فليست وظيفة الجندي المسلم الأمريكي بأعز من دماء المسلم الأفغاني، راجع القرضاوي نفسه، وتراجع عن فتواه، بل حكم على فتواه بالشذوذ في كتابه: (الفتوى الشاذة) ص: 124.
وقد حدثني صديقنا المرحوم حسام تمام، أن المستشار البشري تراجع عن توقيعه على الفتوى، وأنه نادم أشد الندم عليها، وهو أمر لا يستغرب عن البشري، وأعتقد أن معظم من وقعوا عليها، يقف نفس موقف البشري والقرضاوي.
سر نقد البشري لذاته، وإعلانه عن مراجعاته الفكرية، هو أن الرجل يمتلك رصيدا كبيرا من الشجاعة، وقد لمحت ذلك في موقف غير مشهور له، فمعظم من يطلع على مشروع البشري الفكري يقرأ كتبه ومقالاته، ولا يهتم لمقدمات الكتب التي كتبها البشري لمؤلفين آخرين، فقد حوت هذه المقدمات رؤى فكرية شجاعة، واجتهادات جريئة صدرت منه.
منها على سبيل المثال لا الحصر، مقدمته لكتاب: (الفكر السياسي للإمام حسن البنا) للدكتور إبراهيم البيومي غانم، وقد كان رسالة نال بها درجة الماجستير من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، فقد اشتملت مقدمة البشري للكتاب على منهج لتناول المفكر الحركي، كما دعا في مقدمته للاستفادة من الفكر العلماني في فهم الواقع، ومنهاج النظر إلى الواقع. وهي فكرة جريئة دعا إليها البشري، وذلك بعد مراجعات للمعارك التي دارت بين الإسلاميين والعلمانيين في بلادنا، لكنه للأسف لم يبين كيف يتم ذلك؟
ويبدو أن هذه الفكرة ترسخت لدى بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، وبخاصة المرحوم الأستاذ محمد عبد الحليم أبو شقة، كما في كتابه (نقد العقل المسلم)، فكتب تحت عنوان: ماذا يستفيد الإسلاميون من الماركسية؟ وأجاب عن ذلك بذكر ما يمكن الاستفادة منه، وأبو شقة من أصدقاء البشري، بل ذكر لي شيخنا القرضاوي: أن الذي عرفه على طارق البشري وفهمي هويدي وعادل حسين، وجاء بهم لزيارته: أبو شقة، فقد كان بارعا في التواصل مع أصحاب الأفكار المختلفة والقريبة.
جوانب الفكر والسلوك عند البشري متعددة، فقط أردت الوقوف على جانب نقده ذاته، وشجاعته في ذلك، رحم الله البشري ورضي عنه، فقد كان معلما في حياته ومماته.
Essamt74@hotmail.com