هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من أكبر العوائق التي تقف أمام أي اجتهاد علمي: الابتزاز والمهاجمة، والتهم المعدة مسبقا، مستهدفة النيل من سمعة أو تاريخ أو علم صاحبه، سلوك مشهور على مدار تاريخ البحث العلمي، وبخاصة في القضايا الدينية، التي تتطلب جرأة في الطرح والتناول، سواء تتفق أو تختلف مع نتائجها، لكن يظل طرح الموضوعات، وإعادة النظر فيها أمرا مهما.
قليل من يلقي خلف ظهره اتهامات هؤلاء المزايدين، أو الجهال، ويستمر في مسيرته العلمية لا يبالي بمن يرضى أو يسخط، رأينا هذا النموذج في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قديما في فتاواه عن الطلاق وغيره، والتي جلبت عليه سخط الحكام، بإيعاز من مشايخ ضد البحث والاجتهاد.
ورأينا من المعاصرين الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وكنا نقرأ له آراءه واجتهاداته، ثم نجد من يكتب ضده الكتب والمقالات، حتى ألف ضد كتاب واحد له (14) كتابا، ذهب بعضهم في المزايدة عليه، بأن قال: لقد أخرج الغزالي ما صدره من حقد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن خطر الغزالي على الإسلام أشد من خطر المستشرقين واليهود والنصارى!! هكذا كتب ربيع المدخلي، شيخ المداخلة الجامية، وكتب غيره، ولم يلتفت الغزالي واستمر يكتب ويؤلف، واكتشف الناس بعد وفاته بسنوات، أهمية ما كتب، وأهمية ما طرح وتناول.
لقد كانت كبرى القضايا الفقهية تناقش في الكتب، ومجالس العلم، ومحاضرات الفقهاء، يقول فيها ما يشاء، أصاب أم أخطأ، ويرد عليه من يناقشه أو يخالفه، دون رفع عصا التخوين أو العمالة، مثلما نرى في هذا الزمان للأسف، من كل من هب ودب.
لكن آخرين خشوا من الحملات التي تشن عليهم، فآثروا تأجيل طرح أفكارهم إلى ما قبيل وفاتهم، أو تركوها وصية تنشر بعد وفاتهم، من هؤلاء: الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله على ما في الرجل من جرأة، الذي قبل وفاته بعامين، صارح الجميع برأي له في مسألة رجم الزاني المحصن، وأنه لا يراه حدًّا، بل يراه منسوخا، وقد كان في لقاء خاص بالعلماء، وفوجئ الجميع بأنه صارحهم أنه رأي له أخفاه عشرين عاما، والآن يعلنه!!
رغم أن أبا زهرة حضر ندوة أخرى قبل إعلانه سنة 1972م عن رأيه، تم فيها نقاش نفس الموضوع سنة 1954م بحضور شيخ الأزهر وكبار علماء مصر آنذاك، وتناولوا نفس الموضوع، واختلفت وجهات النظر: بين من يرى الرجم حدا، ومن يراه حرابة، ومن يراه تعزيرا، ومن يراه منسوخا لا وجود له، وتم نشر الندوة في مجلة (لواء الإسلام) وقتها، ولم يصدر أي شخص هجوما أو إساءة لهم، ولا اتهم الحاضرون بعضهم بعضا في النيات، أو أنه يجامل الغرب، أو يخالف الثوابت بزعمه، لأن الأجواء وقتها كانت علمية، لا مزايدة فيها، ولا تزيد.
بل ربما تجد من يتهم أبا زهرة والقرضاوي وغيرهما لرأيهما في قضية الرجم مثلا، بأنه رأي جاء استجابة للمد الغربي وثقافته، وأنهم يقعون تحت ضغط الغرب، ناسين أن الفقهاء والمفكرين المسلمين، بطبيعتهم البحثية تثار أمامهم إشكالات، تدفعهم للبحث في موضوعات مختلفة، لا علاقة لها بغرب أو شرق، بل لها علاقة برسالته كعالم وفقيه، وللأسف من يهاجم اجتهادات العلماء يفعل ذلك دون رجوع حقيقي لأقوال العلماء، والإشكالات الحقيقية في الموضوع، وذلك من باب الدفاع وفقط عن رأي موروث، دون تمحيص ومراجعة دقيقة بلا تعصب لفكرة مسبقة.
فقد لاحظت ـ مثلا ـ عند دراستي لموضوع الرجم: أن كثيرين ممن تعرضوا للحديث عنه، وبخاصة من يدافعون عن الرجم حدًّا، تطلق عبارات دون دراستها جيدا، فتجد من ينفي أن الموضوع ذو إشكالية بالأساس، وأن الأمة مجمعة عليه، ولا إشكالات فيه، بينما تجد كثيرا من المفسرين الفقهاء عند تعرضهم لآيات الزنى في القرآن الكريم، ولأحاديث الرجم في السنة، تجدهم يعبرون عن إشكالات في النصوص، ويقدمون الحديث بعبارات مثل: والآية موضع إشكال كبير، أو والحديث مشكل، وقد رأيت ذلك عند آيات سورة النساء، وآية سورة النور، وذلك في إطار المفسرين، فرأينا أمثال: ابن كثير، وابن العربي، والكيا الهراسي، والقرطبي، والرازي، ومحمد عبده ورشيد رضا، وابن عاشور، وغيرهم، حتى على مستوى التابعين والسلف، رأينا من يطرح هذه الإشكالات، أو يعبر عنها داعيا أن يوفقه الله لحل اللغز أو الإشكال، رغم قناعتهم بأنه حد، لكن نصوصه لا تخلو من إشكالات يواجهونها في البحث الفقهي.
على كل من يلج باب الاجتهاد العلمي، ألا يهتم كثيرا لغير أهل العلم الراسخين فيه، يهتم بردودهم العلمية، وتوجيهاتهم الفقهية، ونصائحهم، أما غير أهل العلم، فمن الخطأ البين أن ينجرف الإنسان وراء رضاهم، أو وراء سطحيتهم،
وقد كانت هذه القضايا تثار عند الفقهاء القدامى الكبار، ولم يكن في مخيالهم الفقهي مراعاة أحد سوى ابتغاء رضا الله سبحانه وتعالى، فمثلا: قضية سب الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم اعتبار كل الفقهاء أنها جريمة كبرى، لكنهم اختلفوا في عقاب فاعلها، وبخاصة لو كان غير مسلم، فهل الفقيه القائل بأنه لا عقوبة له، وأنه ينهى عن ذلك وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، فهل اتهمهم أحد بأنهم يجاملون غير المسلمين أو الغرب على حساب دينهم؟!
وأبو حنيفة وابن حزم يريان أن فاعل المثلية الجنسية (اللواط)، فاعلا كان أم مفعولا به، يريان ذلك من الكبائر في الإسلام، لكنهما لا يريان له عقوبة، بل يرى أبو حنيفة أنها في باب التعزير أي: متروكة للحاكم أو القانون يقرر في شأنه المناسب له، ويرى ابن حزم أنه لا عقوبة له، فهل اتهمهما جمهور الفقهاء أو عوام المسلمين أنهما يجاملان فاعلي الجريمة، أو الغرب؟!
لقد كانت كبرى القضايا الفقهية تناقش في الكتب، ومجالس العلم، ومحاضرات الفقهاء، يقول فيها ما يشاء، أصاب أم أخطأ، ويرد عليه من يناقشه أو يخالفه، دون رفع عصا التخوين أو العمالة، مثلما نرى في هذا الزمان للأسف، من كل من هب ودب.
وعلى كل من يلج باب الاجتهاد العلمي، ألا يهتم كثيرا لغير أهل العلم الراسخين فيه، يهتم بردودهم العلمية، وتوجيهاتهم الفقهية، ونصائحهم، أما غير أهل العلم، فمن الخطأ البين أن ينجرف الإنسان وراء رضاهم، أو وراء سطحيتهم، مهما كثر متبعوهم على السوشيال ميديا، فهي ليست معيارا على الرسوخ العلمي، أو التفقه.
Essamt74@hotmail.com