قضايا وآراء

رؤية فلسفية للسيناريوهات المتدافعة في أوكرانيا

حازم عيّاد
1300x600
1300x600

لا يمكن القول إن هناك مسارا واحدا للتفاوض تخلق عن الحرب المستعرة في أوكرانيا؛ كما لا يمكن الجزم بأن هناك طاولة واحدة للتفاوض أو ملفا بعينه يهمن على كافة الملفات كالطاقة والغذاء والتجارة والتمويل وميزان القوة الاستراتيجي؛ فأوكرانيا ليست المبتدأ والخبر وإنما محطة من محطات الصراع على بنية وهيكل النظام الدولي الآخذ في التشكل على وقع التطور التقني والتكنولوجي وعلى وقع التوزيع الجديد للقوة الاقتصادية والعسكرية.

المفاوضات وطاولاتها وملفاتها وأطرافها تكاثرت كالفطر؛ وتعدد الوسطاء وتناثر المتصارعون والمتحاورون على كامل مساحة الصراع السياسي والاقتصادي والعسكري المتخلق عن أزمة أوكرانيا مفضيا إلى مسارات متعددة في أبعادها ومستوياتها ومتشابكة في متغيراتها وعناصرها الطاقوية والديموغرافية والجغرافية والغذائية والمالية. 

تعدد المسارات وتشابكها

المفاوضات الدائرة في بيلاروسيا لم تعد الوحيدة والفريدة من نوعها؛ إذ نجد طاولة أخرى في أنطاليا التركية تضم وزير خارجية تركيا وروسيا وأوكرانيا؛ وثالثة في روما الإيطالية تجمع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بعضو المكتب السياسي ورئيس اللجنة الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني (يانغ جيتشي)؛ ورابعة في الخليج العربي تضم بوريس جونسون رئيس ورزاء بريطانيا وقادة كل من السعودية والإمارات العربية؛ وخامسة في كاركاس عاصمة فنزويلا تضم وفودا من الولايات المتحدة الأمريكية تارة؛ وأخرى وسطاء من المكسيك لمحاورة حكومة الرئيس الفنزويلي (مادورا) أملا في تدفق النفط والغاز الفنزويلي نحو الحلفاء في أوروبا دون غيرهم.

طبعا في ظل هذا الزحام لا يمكن تجاهل طاولة المفاوضات في فيينا التي تضم إيران و(الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا) لإحياء الاتفاق النووي 5+1؛ كما لا يمكن تجاهل نشاط نفتالي بينت الذي تنقل بين موسكو وعواصم أوروبا الشرقية بحثا عن معادلة تحفظ وحدة الموقف الداخلي للكيان الإسرائيلي ومجتمع المال اليهودي العالمي المنقسم بين أوليغارشيا روسية حديثة وأخرى أوروبية عتيقة؛ وبين متطلبات الأمن الإسرائيلي في غرب آسيا وشرق المتوسط.

 

ملفات التفاوض وساحاته تنمو وتتكاثر بذات السرعة التي يتوقع فيها أن تضمحل وتتلاشى في حال جلوس موسكو وواشنطن على طاولة واحدة بحضور الصين وأوروبا أو بغيابها؛ فسيناريوهات الأزمة مرتبطة بفلسفة الصراع ودوافعه لدى كل من واشنطن وروسيا ومن خلفهم الصين وأوروبا؛

 



في ظل هذه الفوضى لا يستبعد أن تنصب خيمة جديدة للتفاوض مع الرئيس الكوري الشمالي كيم إيل جونغ لخفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية في المستقبل القريب؛ وأخرى تجمع الروس بنظرائهم اليابانيين لمعالجة مشكلة جزر الكوريل ومشاريع سخاليين 1 و2 لنقل الغاز الروسي المسال إلى اليابان.

كما هو اضح فإن ملفات التفاوض وساحاته نمت وتكاثرت كالفطر بذات السرعة التي يتوقع فيها أن تضمحل وتتلاشى في حال جلوس موسكو وواشنطن على طاولة واحدة بحضور الصين وأوروبا أو بغيابها؛ فهل يتصور ان تتوصل واشنطن وموسكو الى حل سياسي وامني دون الاخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف المتورطة والمتأثرة بمدخلات ومخرجات الأزمة والصراع الدائر في أوكرانيا؟.

مدخلات الأزمة ومخرجاتها

الحرب في أوكرانيا تحولت إلى صراع ممتد على كامل مساحة القارة الأوروبية والعالم الغربي الذي تربطه شبكة من التحالفات العسكرية والاقتصادية المتجذرة والعميقة في تداعياتها وتأثيراتها على أمن واستقرار القارة الأوروبية والمنظومة الدولية بشقيها الاقتصادي والأمني وأبعادها ومستوياتها الثلاث المحلية والإقليمية والدولية.

فالحرب بتطوراتها والعقوبات بتداعياتها باتت ترسم مسارات متعددة ومعقدة في تشابكها وتعارضها ومساحة تأثيرها الإقليمي والدولي؛ فما أن نشهد انفراجة على أحد المحاور والمسارات التفاوضية المذكورة أعلاه؛ حتى نشهد تصعيدا كبيرا في مسار آخر وعلى طاولة مفاوضات أخرى؛ ما يجعل الوصول إلى حل ينهي المواجهة المسلحة في أوكرانيا أمرا بعيد المنال ما لم تجمع الملفات على طاولة واحدة.

البعد المحلي الأوروبي

القارة الأوروبية ورغم الوحدة الظاهرة في الموقف تخفي تباينا شديدا في المواقف بين دعاة الحياد لأوكرانيا والعسكرة والتمدد في أوكرانيا وشرق أوروبا القوقاز؛ بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا التي  ترغب في خلق منطقة محايدة وعازلة في أوكرانيا وبين أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا ومن ورائها بولندا وعدد من دول أوروبا الشرقية الداعية إلى دعم موقف كييف الرافض للحياد والداعي للانضمام الى الناتو وتفكيك الاتحاد الروسي.

الصراع في القارة الأوروبية بلغ مستوى من التعقيد جعل من اللاعبين الهامشيين غاية في التأثير كبولندا والتشيك التي استبقت خطاب الرئيس الأوكراني زيلنسكي أمام الكونغرس الأمريكي؛ بزيارة خاطفة لرؤساء هذه الدول دعما لموقف زيلنسكي المناهض للحياد ونزع السلاح والداعي لتسليح أوكرانيا بطائرات بولندية وأخرى تشيكية.

التفاصيل اصبحت مهمة ومؤثرة فبعد حديث عن انفراجة في المفاواضات الروسية الأوكرانية وحياد مقبول تروج له الأطراف عاد الصراع إلى نقطة الصفر؛ ليخرج بوتين بعد أقل من نصف ساعة متوعدا في خطاب ألقاه أمام أركان حكومته وحكام الأقاليم يتهدد فيه أوروبا بموقف أكثر تشددا وصلابة في رفض تسليح أوكرانيا وملمحا من جديد إلى ضرورة الإطاحة بحكومة زيلنسكي.


البعد الدولي والإقليمي

لم تقتصر السيناريوهات المتدافعة على البعد الأوروبي ففشل الحوار في روما بين سوليفان ونظيره الصيني جيتشي وتدافع القوى الأوروبية في واشنطن دفاعا عن حياد أوكرانيا وعسكرتها؛ وتضارب مصالح شركاء واشنطن في الخليج العربي وأمريكا اللاتينة؛ تؤكد بأن سيناريوهات الأزمة في أوكرانيا تصعيدية في كافة الملفات الاقتصادية والسياسة والأمنية وهي دينامية أطلقها فشل الحوار الأمريكي الروسي الذي أعقب وصول بايدن إلى البيت الأبيض في واشنطن.

التجاذبات وانعدام اليقين المرافق لسيناريوهات التصعيد والتهدئة؛ فتح الباب لمساومات سياسية واقتصادية تمتد على مساحة واسعة من شواطئ المحيط الهادي في الصين إلى شواطئ الأطلسي الشرقية في البرازيل والأرجنيتن كاشفا عن شبكة معقدة من المصالح تشمل النفط والغاز والمعادن وخاماتها والغذاء وسلاسل التوزيع والتجارة الدولية والتمويل والعملات.

الأزمة الأوكرانية بات لها فلسفتها الخاصة وديناميكيتها الذاتية التي تفاعلت على وقع الفشل في الحوار الروسي الأمريكي؛ والعودة إلى الخلف إلى ما قبل الحملة العسكرية الروسية بات أمرا من الماضي في ظل تعدد اللاعبين وتدافعهم لتحقيق مصالحهم وأهدافهم المتعارضة وفق لحظة تاريخية لا يتصور أن تتكرر بحسب الطامحين الدوليين والإقليميين.

ختاما 

ملفات التفاوض وساحاته تنمو وتتكاثر بذات السرعة التي يتوقع فيها أن تضمحل وتتلاشى في حال جلوس موسكو وواشنطن على طاولة واحدة بحضور الصين وأوروبا أو بغيابها؛ فسيناريوهات الأزمة مرتبطة بفلسفة الصراع ودوافعه لدى كل من واشنطن وروسيا ومن خلفهم الصين وأوروبا؛ وما أوكرانيا إلا محطة من محطاته إما أن يتوقف الصراع والتنافس عندها أو يتواصل ويتمدد إلى ساحات جديدة على أمل تحسن شروط التفاوض والتموضع الدولي والإقليمي في بعده السياسي والاقتصادي والعسكري.

hazem ayyad
@hma36


التعليقات (0)