كتاب عربي 21

هذا حديث في الشأن العام

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
في كلمة منتظرة ومتوقعة قال المشير عبد الفتاح السيسي، حارس مصر و"حاميها"، إن الحديث في الشأن العام ليس مرفوضا.. "اتكلم ما شئت، ولو أنا معرفتش أرد عليك، يبقى المفروض ما أقفش في مكاني، ويبقى أنا معرفش الحكاية فيها إيه؟"، وزيادة في الديمقراطية قال: "لازم نبني في الشخصية المصرية وكل عام واحنا أمة كريمة ووطن عظيم.. وطن يجمعنا بالخير والسلام والمحبة".

أشجع هذا الكلام لو استطعت أن أنشر مقالا مهذبا كهذا في الوطن العظيم.. الوطن الذي يجمع كل من فيه بالخير و"السلام" و"المحبة".

(2)
لست متعاليا على الواقع، ولست صغير العقل والقلب لأتوقف عند جراح شخصية ارتكبها ضدي الرئيس الحنون ونظامه، لذلك أتعامل بموضوعية في الخلاف، الذي هو بالأساس خلاف في الرأي السياسي، وخلاف "في الشأن العام"، وكانت نتيجة هذا الخلاف "السلمي" هي منعي من الكلام، ومع ذلك لا أعترض على طرح الحوار كمبدأ (حتى لو كان حيلة)، فالحوار وسيلة من وسائل العمل الديمقراطي، ولا يجب أن يهجرها الساعون إلى تنحية أسلوب "القوة الغاشمة" واستبداله بالحوار، حتى يثبت "أن في الأمر خدعة"، لأن واقع الحال في مصر وصل بنا إلى تسول حريتنا وحرية عشرات الآلاف في السجون.
لقد عاينت تجربة السجن بنفسي، وقابلت أعدادا من الطيبين خضر القلوب المتهمين بالإرهاب وتخريب الوطن، وتعرفت على لوعة آلاف الأسر على أبواب السجون وفي بيوتهم التي تحولت إلى زنازين مدنية "أحسن من سوريا والعراق"

لقد عاينت تجربة السجن بنفسي، وقابلت أعدادا من الطيبين خضر القلوب المتهمين بالإرهاب وتخريب الوطن، وتعرفت على لوعة آلاف الأسر على أبواب السجون وفي بيوتهم التي تحولت إلى زنازين مدنية "أحسن من سوريا والعراق".

(3)
قد يتصور السادة المتحكمون في القصر والمكاتب الأمنية الفخمة أن لغتي تهكمية وساخرة، لكن الحقيقة أن هذا الأسلوب مجرد مناورة لإخفاء طعم المرارة التي أفسدت حياتنا، وإن كانت هذه اللغة تغضبكم وتستخدمونها كحجة للاستمرار في العناد، فإنني سأتعلم لغة أخرى عندما يتيسر لي وقت للتعلم، وهذا لن يحدث إلا إذا ساعدتموني في تحرير ذاكرتي من صور السجناء التي تتراءى أمام عيني وتملأ رأسي بهموم العجز المؤلم، والإحساس المؤذي بلوعة زوجات وأمهات لا علاقة لهن بالسياسة ولا يشكلن أي خطر على الدولة الجديدة ولا القديمة، إنهن ينتظرن الأولاد في كل مناسبة ويأملن في الفرح المرتقب مع كل عيد. وإذا كان هناك من عاقل في هذا النظام، فمن المؤكد أنه يعرف جيدا أن "خبطة الإفراج الجماعي" عن أكبر عدد من السجناء ستحقق انفراجة نفسية تسمح بما يطمح إليه الحاكم وعبّر عنه في حفل إفطار الأسرة المصرية، الذي دعا فيه إلى تكاتف الجميع في مواجهة التحديات الخطيرة التي تتعرض لها البلاد!

(4)
قالت إحدى الأمهات مستعيدة كلمة السادات قبل زيارته المشؤومة لإسرائيل: "إنني مستعدة لأن أذهب إلى آخر هذا العالم.. مستعدة لأن أذهب إلى الكنيست ذاته، لو أن ذلك يؤدي إلى إفراج عن سجناء الرأي"..
الوعي بالمأزق يدعو للتفكير في كيفية استثمار مناخ الحوار، لأن أسلوب الحوار هو أكثر ما يخيف الحاكم الشمولي ويكشف عن مأزقه، ومن المفهوم أن هذا "التنازل العظيم" قد لا يسفر عن حوار جاد، لكن السياسة هي فن توسيع الثغرات في الجدار

صحيح أن الأمور السياسية لا تتم بهذه البساطة وبهذه النية السليمة، لكنها تتم وفق حسابات وصفقات، وبكل أسف معظمنا يعرف أن الشارع المصري لا يملك من أوراق اللعبة حتى الواحد في المائة التي كان السادات يتحدث عنها، لكن هذا لا يعني إهدار الحق بالانضمام للباطل، ولا يعني إهدار قيمة الحرية بتسولها تسولا ذليلا دون قيد أو شرط، لكن الوعي بالمأزق يدعو للتفكير في كيفية استثمار مناخ الحوار، لأن أسلوب الحوار هو أكثر ما يخيف الحاكم الشمولي ويكشف عن مأزقه، ومن المفهوم أن هذا "التنازل العظيم" قد لا يسفر عن حوار جاد، لكن السياسة هي فن توسيع الثغرات في الجدار، خاصة وأن اللعبة هذه المرة على أرضية المؤمنين بالعمل الديمقراطي، فنحن نفهم في الحوار أكثر مما نفهم في حروب الأجيال التي يلوكها النظام في كل أزمة.

(5)
لن أتوقف بالنقد أو التحليل لما جاء من تصريحات مكررة في حفل الإفطار، لأن الموقف مكشوف لكل المتابعين، ولا نحتاج إثبات أن الماء ماء، فالتصنيف الائتماني لمصر في موقف حرج، ولا يهمني تغطية ذلك بأسباب خارج القرار السياسي ونمط إنفاق الدولة وخطة إصلاحها الجريء، مثل عدوى كورونا والإصابة جراء الحرب الأوكرانية أو أي أسباب قدرية خارجية تعفي النظام من حرج الأخطاء السياسية التي لن يعترف بها، لكنني أود لو احترمنا العقول وبادرنا بفتح المجال العام بضوابط محترمة، لكن بنية خالصة.

والضوابط لا تمنع توسيع الحوار خارج قاعات المؤتمرات المغلقة وولائم الطعام، لكنه يجب أن يشمل المجتمع ومنصات التواصل الاجتماعي التي تعتبر من أقوى الأسباب لحبس المواطنين خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وأعتقد أن تفعيل الدستور واحترام القوانين يكفي، وهذا يعني إنهاء كل حالات الحبس الاحتياطي بقرار أو مرسوم أو مخرج تسمح به القواعد.
هناك إشارات وعلامات أخرى يفيد وجودها في إثبات حسن النية وتهيئة المجال للحوار؛ تتمثل في وقف حملات الكراهية والخطاب التحريضي في الإعلام وفي تصريحات المسؤولين، واحترام الخطاب العام لكل الفئات المعارضة، والتعامل مع الشعب كله كنسيج واحد متساوي الحقوق والاحترام بلا تخوين أو تلويث

وهناك إشارات وعلامات أخرى يفيد وجودها في إثبات حسن النية وتهيئة المجال للحوار؛ تتمثل في وقف حملات الكراهية والخطاب التحريضي في الإعلام وفي تصريحات المسؤولين، واحترام الخطاب العام لكل الفئات المعارضة، والتعامل مع الشعب كله كنسيج واحد متساوي الحقوق والاحترام بلا تخوين أو تلويث. وربما تكون اللغة التي تحدث بها السيسي عن الرئيس مرسي تمثل متغيرا ملحوظا، بدا لافتا وسط أجواء التحريض السائدة التي تنفق عليها "الدولة المأزومة" ببذخ.

(6)
قال السيسي: "لا يجب أن نفقد الأمل أو يصيبنا الإحباط أو اليأس"، ثم أصابني بالإحباط عندما صرح ببساطة شديدة أنه أنفق ثمانية تريليونات جنيه في حربه ضد الإرهاب خلال سبع سنوات فقط!! هذا تصريح مخيف في دولة يتحدث حاكمها عن عجز مالي، ثم يواصل حديثه بشكل عادي بأن "الإرهاب لم ينته"، متجاهلا تصريحات سابقة عن سقف زمني محدود لتسليم سناء "متوضية" خالية من الإرهاب والإرهابيين!!

(7)
من المفارقات التي يجب التحذير منها أن لقاء الدعوة للحوار لم يشهد أي حوار برغم حضور عشرات الشخصيات العامة ورؤساء الأحزاب والسياسيين، بل كانت الدعوة عبارة عن مونولوج معاد من طرف واحد يعرض فيه تعاون الآخرين في مأزق لم يشاركوا فيه أصلا وبعضهم حذر منه، خاصة سياسة الاقتراض بلا حساب ولا محاسبة، وخطيئة إغلاق المجال العام، وتصدير حديث الإرهاب الذي ساهم في القضاء على السياحة ومناخ الاستثمار. ومع ذلك طرح السيسي برنامجا للإصلاح السياسي في 13 نقطة، معظمها إجراءات روتينية من الواجب أن تقوم بها الحكومة، مثل تكليف الحكومة بعقد مؤتمر صحفي عالمي لتحسين مناخ الاستثمار وجذب السياحة، ومثل مبادرة دعم الصناعات الوطنية والاعتماد على المنتج المحلي وتقليل الواردات من خلال تعزيز دور القطاع الخاص، وهو المطلب الذي يذكرنا بأسباب حبس رجل الأعمال صفوان ثابت وشكاوى القطاع الخاص من الاحتكارات، ومثل دعم العمل الأهلي والتنموي والذي يتلخص فيما صرح به وزير سابق بالإحسان للشعب الفقير عن طريق توزيع سلع بأسعار اقتصادية وإعانات وإسقاط ديون عن غرامات، ودعم مزارعي القمح.. إلخ.
حوار هندسي محكوم سلفا، لكن ما باليد حيلة.. عندنا سياسيون نفسهم حلوة، وسياسيون لديهم الصبر والحلم وخبرة التعامل في مثل هذه اللقاءات، صحيح أنهم أخفقوا في أي حوار بينهم وبين بعض في المعارضة، لكن الحوار مع الدولة له جاذبية أخرى

ثم يظهر الحديث إطلاق منصة حوار تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي والمجلس القومي لحقوق الإنسان، وتكليف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني، مع وعد بحضور الرئيس للمراحل النهائية من مخرجات الحوار، ثم عرضه على البرلمان لتحويل ما يصلح منه إلى تشريعات جديدة.. أي أنه حوار هندسي محكوم سلفا، لكن ما باليد حيلة.. عندنا سياسيون نفسهم حلوة، وسياسيون لديهم الصبر والحلم وخبرة التعامل في مثل هذه اللقاءات، صحيح أنهم أخفقوا في أي حوار بينهم وبين بعض في المعارضة، لكن الحوار مع الدولة له جاذبية أخرى. وفي كل الأحوال وبرغم كل التحفظات أدعو من قلبي أن يوفقهم الله على أداء المهمة الإنسانية قبل السياسية..

(8)
خلاصة رأيي في المبادرة المطروحة، أنها اللقمة المتاحة لجائع عاجز، فقد ثبت فشل الشارع السياسي والحزبي في إحداث أي تحسين أو تأثير في كل الملفات، ووصل الوضع إلى وجود آلاف الرهائن في السجون وخارجها، وهذه المشكلة المؤلمة تحتاج إلى مرونة في التعامل السياسي والإنساني معها. وفي كل الأحوال، فإن نتائج الحوار إذا لم تحقق خطوة إيجابية، فإنها ستكون مراهم أمل يعيش عليها السجناء وأهاليهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وكل عام وأنتم بخير.

tamahi@hotmail.com
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الأربعاء، 27-04-2022 04:05 م
في دستور السيسي الجيش يحمي مدنية الدولة ، لا تضحك فهذه حقيقة وليست نكتة ، ولكن اين هذه الدولة ايضا لا تسل وانت اعلم اين سيكون مكانك لا مكانها ، فالسيسي استأذن " جيشه " ليحكم وقالوا له " اقعد وخد بالك " نعرف كيف جاء ولكن لا نعرف كيف سيذهب ، فاذا كان فعلا يؤمن هو وجيشه بما يقول ، فاول شئ واجب عليه فعله ، بدء فترة انتقالية 6 شهور واجراء انتخابات نزيهة وليست كانتخاباته الذى اجراها علي الا يترشح ، والعسكرى الذى يترشح لها يكون قضي 5 سنوات علي الاقل متقاعد ، وتبسط الاجرائات وتخرج كل الاجهزة الامنية من كل مراحلها ، الا لحفظ الامن والنظام ، ثم اطلاق سراح المحتجزين السياسين علي علاتها ، فلن يدخل السباق احد من قدماء الساسة لمحكومياتهم او لوجودهم علي قوائم الارهاب ، وتصبح الساحة خالية ، ويختار الشعب بارادته الحرة من يريده ، وفي هذه المدة يعدل الدستور لاستعادة مدة الرئاسة السابقة وكل المواد التي وضعها السيسي ليعوض بها قصر قامته واشياء اخرى و فيها ايضا تراجع كل القوى السياسية خياراتها وتستعد للانتخابات التالية ،"من لا يدرى ولا يدرى انه لا يدرى فذلك جاهل فاتركوه "