هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر موقع العربي الجديد يوم الثلاثاء الثاني عشر من تشرين أول (أكتوبر) الجاري خبرا تحت عنوان: مفتي مصر السابق علي جمعة في مجلس إدارة مياه الشرب والصرف الصحي، في بيان صادر عن وزارة الإسكان، وأن جمعة حضر اللقاء، ورحب به رئيس مجلس الإدارة، وعرض عليهم تفاصيل العام المالي الحالي، والعام المالي القادم.
ربما يكون الخبر عاديا، لو كان الدكتور علي جمعة قد تم تعيينه في مجلس إدارة جمعية خيرية، سواء رئيسا لمجلس إدارتها، أو عضوا فيها، أو أي كيان علمي آخر يمت بصلة من قريب أو بعيد للبحث العلمي، سواء في البحث الديني أو التطبيقي، أو الإنساني، لكن المستغرب أنه عضو في مجلس إدارة كيان لا يمت بأدنى صلة لتخصصه، ولا نعلم تخصصا له من قبل له علاقة بالكيان المعين فيه.
منذ انتشار الخبر وانتباه جمهور التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا له، والتعليقات المصرية المعروفة بالسخرية والنكتة حاضرة بقوة، ولأن الجهاز مكون في عنوانه ومهامه من أمرين: مياه الشرب، والصرف الصحي، وهناك أزمة مياه تعيشها مصر، أو تنتظرها بعد سد النهضة في أثيوبيا، فغالبا سيكون العمل في الشق الآخر أكثر، وهو الصرف الصحي، سواء كان بتحلية مياهه، أو تسيير أعمال الصرف الصحي في مصر، وهو ما انصب عليه معظم تعليقات الناس، وتهكماتهم على شخص لم يكن يدع فرصة للتهكم أو الكلام بافتراء وتحريض للسلطة على معارضيه إلا واهتبلها.
وإلى الآن لم نفهم ما علاقة علي جمعة بالمهمة، فلا الصرف الصحي يحتاج لاستشارات دينية، أو فتاوى علي جمعة، إذ إن فقه آداب الخلاء لا يتم تعليمه عن طريق وزارة الإسكان، ولا هيئة الصرف الصحي، فيكفيه ـ وهو حاليا يشرح متن أبي شجاع في حلقات علمية مفيدة ـ أن يرسل لهم المادة العلمية، وقد شرح في أول الدروس أنواع المياه التي يجوز التطهر بها، ثم آداب الخلاء، ثم الوضوء والغسل بجميع أنواعه، بداية من غسل الجنابة، وانتهاء بغسل الميت، أطال الله عمر فضيلته في الخير.
تخيل لو كان هذا العمل قد أسند لأحد شيوخ الإخوان في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، أو أسند مثلا حاليا لشيخ الأزهر الحالي، أو لشيخ آخر ليس على هوى السلطة، ما موقف الإعلام السلطوي؟ ثم ما موقف المتاجرين بالحديث عن الدولة المدنية، والتنوير؟
ولا أدري ما الذي جعلني أتذكر فور قراءتي للخبر، المرحوم الفنان إسماعيل ياسين، وقد كانت معظم أفلامه تدور حول شخصيته، ويكتب اسمه في العنوان، فتجد له أفلاما بهذه العناوين: إسماعيل ياسين في الجيش، إسماعيل ياسين بوليس سري، إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين، إسماعيل ياسين في دمشق، وهكذا نجد الرجل مر على مهن كثيرة، ويبدو هنا أن هناك حالة من هذا الوله والتنوع في المهام لدى علي جمعة، فيعيش على نفس النمط: علي جمعة في الجامعة، علي جمعة في الإفتاء، علي جمعة في الصرف الصحي!!
ولا أدري ما سر هذا الإسهال في حب وعشق تولي جمعة للمهام التي تكون في السلطة أو الأضواء، وإن لم تكن متعلقة بتخصصه العلمي، ولو قامت في مصر هيئة لمراجيح السيدة زينب، لوجدناه معينا أو أو طالبا لتوليته رئاسة مجلس إدارتها، أو عضويتها. ولو أنه تفرغ قليلا في هذا العمر للعلم لكان خيرا له ولمهنته، فالملاحظ أن الرجل منذ ترك الإفتاء، وإنتاجه العلمي محدود، كما وكيفا، وقد كان إنتاجه قبل المنصب أكثر غزارة، وإن كان معظمه جهود جماعية يوضع اسمه من باب الإشراف عليها، وبعضها اكتشفنا أنه لم يقرأه، لوجود أخطاء علمية لا تصدر عن مثله، فضلا عن أمور أخرى علمية ليس هنا سياقها.
طبعا تعليقات الناس الساخرة والمتهكمة على جمعة، لم تنس الربط بين كلامه عن معارضي السيسي، وبين منصبه الجديد، فقد قال من قبل في خطابه الشهير: اضرب في المليان، وقال: ناس نتنة ريحتهم وحشة. وهنا ربطوا بين الكلام عن إهانة الناس بالرائحة، وبين طبيعة العمل الجديد في الصرف الصحي.
وبعيدا عن السخرية والتهكم الذي لا يمكن أن ننزعه عن الخبر وطبيعته، وطبيعة صاحبه، وطبيعة الشعب المصري، فربما فهمنا هذه المهمة في سياق سلطوي آخر، أنها إهانة للرجل، بيد أنها جاءت من سلطة لجمعة مكانة مهمة عندها، فقد كان في عهد عبد الناصر يتم تعيين مثقف أو أديب في وزراة التموين، أو في عمل آخر لا علاقة له بتخصصه، ولا بمؤهله، وذلك من باب التنكيل به، وهو ما حدث في عهد مبارك أيضا من تحويل أئمة مساجد وخطباء عن العمل الجماهيري والدعوي، للعمل الإداري، وهو ما لا يتفق مع طبيعة ومؤهل الشخص، لكن هذه المرة جمعة معين من سلطة تقدره، ويبادلها تقديرا أكبر من تقديرها، فالتعيين هنا لمصلحة تتحق له، وإلا فلماذا حرصه عليها، وحرص السلطة على إكرامه به؟!
الأمر الآخر الذي لفت انتباهي، هو تخيل لو كان هذا العمل قد أسند لأحد شيوخ الإخوان في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، أو أسند مثلا حاليا لشيخ الأزهر الحالي، أو لشيخ آخر ليس على هوى السلطة، ما موقف الإعلام السلطوي؟ ثم ما موقف المتاجرين بالحديث عن الدولة المدنية، والتنوير؟
بالتأكيد كنت ستجد إبراهيم عيسى، وخالد منتصر، والبحيري، لا يفوتون الفرصة، فيخرجون ويقولون: لا لتديين الصرف الصحي، لا لأسلمة الهيئات المدنية، ولوجدت أحمد موسى وعمرو أديب وغيرهما من أبواق الإعلام المأجورة، تكيل له وللعمامة التي يرتديها الكلمات الشديدة، بل ربما سخروا أكثر من سخرية الجماهير المصرية الكارهة لجمعة.
الخبر يؤكد ما تنتهجه سلطة الحكم العسكري في كل زمان ومكان، فمن تحويل الهيئات المدنية للعسكرة، إلى الانتقال للصف الذي يلي العسكر، وهو ألسنة وعمائم العسكر، حتى في الوظائف التي لا تمت لتخصصاتهم بصلة، لتتحول الوظائف في مصر إلى العسكرة، والكوسسة، أي: الكوسة، منطق الواسطة والمحسوبية، وهو مصطلح مصري أيضا يسخر به الشعب من الحكم، من أن شعاره يكون: الواسطة (الكوسة) مقدمة على التخصص والكفاءة، حتى لو كان بوجود علي جمعة في الصرف الصحي!
Essamt74@hotmail.com