قضايا وآراء

ما هو "الموقف العقلاني" من الانتخابات الرئاسية التونسية؟

عادل بن عبد الله
"أي معنى للعودة إلى الديمقراطية بالفلسفة السياسية القائمة على مركزية الصراع الهوياتي ضد حركة النهضة، وتسفيه أي إرادة شعبية"- جيتي
"أي معنى للعودة إلى الديمقراطية بالفلسفة السياسية القائمة على مركزية الصراع الهوياتي ضد حركة النهضة، وتسفيه أي إرادة شعبية"- جيتي
إن الحديث عن "موقف عقلاني" من الانتخابات الرئاسية في تونس، هو في الحقيقة حديث عن جملة من الأطروحات السياسية التي تدّعي أن مواقفها المتباينة من الانتخابات، هي المواقف الأكثر عقلانية من جهة الفاعلية، ومن جهة تحقيق المصلحة الوطنية. ولذلك، فإننا سنكون موضوعيا أمام مجموعة من الأطروحات المتقاربة (دون تطابق)، أو المتصارعة بمنطق النفي المتبادل، وهي أطروحات يمكن تقسيمها نظريا -على الأقل فيما يتصل بأهم الفاعلين السياسيين- إلى ثلاث: أطروحة السلطة، وأطروحة الهوامش الوظيفية للسلطة (الموالاة النقدية لـ"تصحيح المسار")، وأطروحة المعارضة الجذرية.

وقد يكون من الضروري في هذه المقدمة أن نوضّح أننا نتحدث عن "عقلانية" تحكم الأطروحات المتنازعة، وذلك من جهة التسليم بوجهة نظر الفاعل الاجتماعي، لا من جهة التسليم بوجود تلك العقلانية بمعيار العقلانية السياسية المعاصرة. وهو ما يعني أننا سنحتاج إلى لحظة ثانية بعد لحظة التحليل والتفكيك، ألا وهي لحظة النقد الموجه لمجمل المواقف من الانتخابات الرئاسية، بل لمجمل الأطروحات المتنازعة على إدارة الشأن العام بعد 25 تموز/ يوليو 2021.

لو اعتمدنا معيار التناسق الداخلي أو عدم التناقض بين النظرية والتطبيق، فإننا سنعد أنّ أطروحة السلطة (أطروحة "تصحيح المسار") هي الأكثر عقلانية من بين الأطروحات المتنازعة. فالرئيس التونسي قد جاء إلى السلطة حاملا بديلا سياسيا، لا علاقة له بالديمقراطية التمثيلية التي أوصلته إلى قرطاج، وهو مشروع لم يكن مخفيا على النخب بمختلف أيديولوجياتها وأجسامها الوسيطة، ولم يفعل منذ 25 تموز/ يوليو 2021 إلا ما يوجبه مشروع "الديمقراطية المباشرة" من هدم للامركزية القرار، وإضعاف للأجسام الوسيطة وشخصنة للقرار السيادي.

إننا أمام "عقلانية" مخصوصة لا تلتمس شرعيتها من قيم "الديمقراطية التمثيلية"، وهذه "العقلانية" لا تعترف بالانقسام الاجتماعي، ولا بالأجسام الوسيطة التي أوكلت لها الديمقراطية "الفاسدة" إدارة التناقض بين المصالح المادية والرمزية لمجمل الفئات المشكلة للمجتمع. ففي الديمقراطية المباشرة أو المجالسية (وهي أطروحة ذات أصل يساري) لا وجود لانقسامات "مشروعة".
ولذلك، فإن "العقلانية" (من منظور السلطة) كانت تفترض تحويل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية، تؤسس لجمهورية جديدة ذات نظام رئاسوي، كما أن "العقلانية" ذاتها توجب على الرئيس أن يرفض مبدأ التشاركية ومنطق التداول على السلطة مع أولئك الذين اعتبرهم "خطرا جاثما"، أعظم من "الخطر الداهم" الموجب لتفعيل الفصل 80 من دستور 2014 بقراءة "ما فوق دستورية".

إننا أمام "عقلانية" مخصوصة لا تلتمس شرعيتها من قيم "الديمقراطية التمثيلية"، وهذه "العقلانية" لا تعترف بالانقسام الاجتماعي، ولا بالأجسام الوسيطة التي أوكلت لها الديمقراطية "الفاسدة" إدارة التناقض بين المصالح المادية والرمزية لمجمل الفئات المشكلة للمجتمع. ففي الديمقراطية المباشرة أو المجالسية (وهي أطروحة ذات أصل يساري) لا وجود لانقسامات "مشروعة"، بل هناك فقط انقسام واحد تقوم بين طرفيه علاقة لا متكافئة سياسيا وأخلاقيا. فنحن نجد الزعيم والشعب في أحد الطرفين (طرف الخير والعدل والمصلحة الوطنية)، ونجد المتآمرين والخونة وأعداء الشعب في الطرف الآخر (طرف الشر والظلم والمصالح الشخصية). ولا يمكن لهذا المنطق السياسي القائم على أحادية "الحق"، ونفي "الانقسام الاجتماعي"، ونزع الشرعية عن "الأجسام الوسيطة"؛ أن يقبل بمنطق اقتسام السلطة داخل النظام ذاته (فهو يشخصن السلطة ويجعل الرئيس فوق المراقبة والمحاسبة)، فما بالك بأن يسمح باقتسامها مع أعدائه (أي أعداء الشعب والمصلحة الوطنية).

إننا أمام عقلانية "كُليانية" بحكم أصولها اليسارية، وكذلك بحكم علاقة التعامد الوظيفي الذي يطبع علاقة الرئيس فيها بالدولة العميقة، وهي عقلانية ما قبل حديثة؛ لأن أساسها ليس الإرادة الشعبية الحقيقية، بل الإرادة الشعبية "المتخيلة" التي تقوم على التفويض المطلق والنهائي، والولاء الأعمى وشيطنة الخصوم وعدم تحمل المسؤولية السياسية عن الواقع. كما لا تتأثر "الشرعية" في هذه الأطروحة، ولا تُراجَع أو تُنقض بمفهوم "الإنجاز" أو "المشروعية". فالواقع -حسب الخطاب الرئاسي- سيئ؛ لأنه ميراث خيارات سيئة في "العشرية السوداء" وقبلها، والفشل لا يرتبط برأس النظام ولا بالفلسفة السياسية لتصحيح المسار، بل هو مردود إلى أولئك الذين خانوا "الأمانة" داخل النظام ذاته بحكم ارتباطهم بـ"الغرف المظلمة"). ولذلك، فإن "العقلانية السلطوية" تقتضي إيجاد سياق انتخابي، يسمح لها بالاستمرار بعيدا عن أي احتمال جدي للتغيير، وهو ما قامت به بإتقان، ودون أي معارضة قادرة على فرض شروطها. فماذا فعلت الأطروحات المنافسة في مواجهة هذه الاستراتيجية، التي لا يحركها إلا البقاء في السلطة بمنطق "التفويض الشعبي" أو "المبايعة"، لا بمنطق الاحتكام للإرادة الشعبية في مناخ تنافسي نزيه.

مهما كان موقفنا من "تصحيح المسار"، فإننا لا نستطيع إنكار عقلانيته وفاعليته في الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، بصرف النظر عما يوجه إليه من انتقادات في مستوى الشرعية أو المشروعية. وهو ما لا يمكن أن نحكم به على الموالاة النقدية، أي تلك الموالاة التي مهدت لـ25 تموز/ يوليو ودعمته ثم اتخذت منه مسافة نقدية، وتحولت إلى منافس سياسي له في الانتخابات الرئاسية، فأغلب رموز هذه الموالاة كانوا جزءا أساسيا في المشهد السياسي، خلال ما يسمونه هم أنفسهم بـ"العشرية السوداء".

مهما كان موقفنا من "تصحيح المسار"، فإننا لا نستطيع إنكار عقلانيته وفاعليته في الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، بصرف النظر عما يوجه إليه من انتقادات في مستوى الشرعية أو المشروعية. وهو ما لا يمكن أن نحكم به على الموالاة النقدية، أي تلك الموالاة التي مهدت لـ25 تموز/ يوليو ودعمته ثم اتخذت منه مسافة نقدية، وتحولت إلى منافس سياسي له في الانتخابات الرئاسية.

فالسيد زهير المغزاوي مثلا أو القيادي في حملته الانتخابية السيد محمد عبّو؛ كانا من أبرز الفاعلين في النظام البرلماني المعدّل، سواء داخل السلطة أو في معارضتها البرلمانية. وكان حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب من أهم القوى البرلمانية، التي أسقطت حكومة السيد "الحبيب الجملي"، ودافعت عن "حكومة الرئيس"، وقد كانا أيضا من أهم الأصوات الداعية للانقلاب على التجربة الديمقراطية لأسباب ليس هذا موضع بسط الحديث فيها، ولكنها أسباب تجد جذرها -حسب رأينا القائم على الاستقراء-، في إقصاء النهضة عن مركز الحقل السياسي، وإعادة هندسة ذلك المشهد بالشراكة مع الرئيس.

لقد كانت "عقلانية" الموالاة النقدية" تقوم على مبدأين غير عقلانيين؛ هما الثقة في الرئيس دون وجود أي ضمانات في فلسفته السياسية ذاتها، وكذلك افتراض إمكانية وجود "ديمقراطية" دون حركة النهضة. وبصرف النظر عن أداء حركة النهضة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (وهو أداء يمكن أن يوجه إليه أكثر من نقد جذري)، فإن ما لم يفهمه أصحاب "الموالاة النقدية"، هو أن استهدافها من لدن النظام لم يكن بسبب هويتها أو مرجعيتها "الإسلامية"، بل كان أساسا لاستهداف النظام البرلماني المعدل واستهدافهم هم أنفسهم؛ لأنه لا مكان لهم ولأحزابهم داخل النظام الرئاسوي والديمقراطية المباشرة.

لقد كان تحييد حركة النهضة يعني بالضرورة تحييد باقي القوى السياسية وتدجين الأجسام الوسيطة كلها، ولكنّ "عقلانية" الموالاة النقدية كانت عاجزة عن فهم هذا المعطى، أو لنقل إنها كانت مستعدة للمخاطرة، بحكم أن نجاح الخطة كان يعني بناء نظام تشاركي مع الرئيس مع إقصاء حركة النهضة.

ولا يبدو أن هذه الموالاة قد تعلمت من الدرس الأول (درس التمهيد لـ"تصحيح المسار" ودعمه)، ولذلك فإنها قد اختارت التحول إلى منافسته من داخل سردية تصحيح المسار ذاتها (أي المعارضة مع الإبقاء على الشيطنة النسقية لما قبل 25 تموز/ يوليو). فـ"عقلانية" الموقف من الانتخابات الرئاسية تجد حجتها الأساسية عند هؤلاء في مقاومة انحراف تصحيح المسار (أي عدم التشكيك في شرعية 25 تموز/ يوليو، ولكن رفض مساره)، مع الوعد بإعادة الديمقراطية (أي العودة إلى الديمقراطية التمثيلية).

ولا يخفى ما في هذا الموقف من تناقضات داخلية، هي في دائرة اللامفكر فيه عند أصحابه. فكيف يمكن اعتبار "تصحيح المسار" استجابة شرعية لانتظارات التونسيين، وهو القائم في جوهره على إلغاء الحاجة للأحزاب وللديمقراطية التمثيلية التي يعد السيد المغزاوي ومن معه بالرجوع إليها؟ وأي معنى للعودة إلى تلك الديمقراطية بالفلسفة السياسية القائمة على مركزية الصراع الهوياتي ضد حركة النهضة، وتسفيه أي إرادة شعبية قد تدفع بها مرة أخرى إلى مركز الحقل السياسي؟ بل كيف يمكن الثقة في "ديمقراطية" من كانوا أول من دعا بعضهم إلى "البيان رقم واحد" منذ المرحلة التأسيسية، وساند بعضهم الانقلاب المصري، واعتبره "ثورة تصحيحية"؟ وكيف يمكن التفكير في الفوز على نظام يرفض منطق التداول على رأس السلطة من داخله، فما بالك بأن تكون من خارجه؟ إنها أسئلة لا ندعي أن المعنيين بالإجابة عنها مهتمون بها، ولكننا نزعم أنها تجعل من "عقلانية" الموالاة النقدية عقلانية متهافتة، لن يتعدى دور أصحابها مرتبة "الديكور الانتخابي".

أما فيما يتعلق بالمعارضة الجذرية التي اعتبرت تصحيح المسار انقلابا، ثم ارتأت أن تعترف بشرعيته ضمنيا بمنافسته في الانتخابات الرئاسية، فإن عقلانيتها هي الأخرى لا تتجاوز سقف عقلانية الموالاة النقدية رغم اختلاف المقدمات. فهيئة الانتخابات قد أقصت رموز هذه المعارضة من السباق الرئاسي -في تحد صريح لأحكام القضاء الإداري-، ولكن ذلك لم يمنع أنصارها من مواصلة "أحلام اليقظة" بالحديث عن دعم أحد المرشحين الثلاثة (السيد العياشي الزمال). وتستند "عقلانية" هذا الموقف عند المدافعين عنه إلى وجود "ضمانات" بعدم التلاعب بصناديق الاقتراع. وهو افتراض لا يوجد أي دليل عليه، ولذلك، يمكن اعتباره تجسيدا لمبدأ الرغبة وإسقاطا له على الواقع.

الامتناع عن التصويت ومحدودية نسبة المشاركة، لا تمثل بالنسبة لهذا النظام أي حرج، وهو ما أثبتته المحطات السابقة مثل الاستفتاء على الدستور أو الانتخابات لغرفتي البرلمان. فرغم نسبة المشاركة المنخفضة، فإن النظام لم يتراجع عن خارطة طريقه، ذلك أن البنية الدينية العميقة لـ"تصحيح المسار"، تجعل من الأرقام مجرد تفاصيل غير مهمة.

فما الذي سيجعل الصناديق ونتائجها في مأمن من انحياز هيئة الانتخابات، وفي منأى من ولايتها العامة التي أثبتت خلال المسار كله، أنها في خدمة الرئيس المنتهية ولايته؟ وما الذي سيمنع المنظومة من إعادة إنتاج نفسها بمنطق "التأسيس الثوري الجديد"، الطارد لأي تداول ممكن على السلطة؟ إن ما لم يفهمه المدافعون عن ترشيح السيد الزمال، هو أن منطق إحراج السلطة أو تهرئة شرعيتها، هو منطق يصلح داخل الديمقراطية التمثيلية، ولا مكان له في الديمقراطية المباشرة (ما يقابل السلطة الجبرية في التراث الإسلامي)، كما أن ما لم يفهمه هؤلاء، هو أنّ التعويل على "الدولة العميقة"، أو على السياقات الإقليمية المتغيرة، هو منطق يفضح محدودية وعيهم السياسي، ولا يفصح عن أي "عقلانية" تتجاوز أحاديث النفوس، وما تهوى (منطق الرغبة لا منطق الواقع).

ختاما، فإن المقارنة بين ضروب العقلانيات التي تحكم المواقف من الانتخابات الرئاسية (من جهة الفاعلية والواقعية)، تجعل فوز الرئيس في تلك الانتخابات هو الفرضية الأرجح. فالامتناع عن التصويت ومحدودية نسبة المشاركة لا تمثل بالنسبة لهذا النظام أي حرج، وهو ما أثبتته المحطات السابقة مثل الاستفتاء على الدستور أو الانتخابات لغرفتي البرلمان. فرغم نسبة المشاركة المنخفضة، فإن النظام لم يتراجع عن خارطة طريقه، ذلك أن البنية الدينية العميقة لـ"تصحيح المسار" تجعل من الأرقام مجرد تفاصيل غير مهمة في مشروع "خلاصي"، يؤمن بالقلة الصالحة والصادقة في مواجهة الأغلبية الفاسدة والضالة. كما أن كثافة التصويت لن تُحرج هذا النظام حتى إذا كانت ضده، فهيئة الانتخابات قادرة على تكييف الإرادة الشعبية -بسلطة القانون أو بمنطق فرض الأمر الواقع-، حسب ما تقتضيه "المصلحة الوطنية"، وهو ما يعني أن النتائج أو الإرادة الشعبية، ليست هي المحدد الأساسي لشرعية السلطة، فهذه الشرعية هي شرعية "متعالية"؛ لأنها تطابقت مع الإرادة الشعبية ومع منطق التاريخ مرة واحدة وإلى الأبد.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل