أفكَار

حرب روسيا ـ أوكرانيا.. حتمية التقسيم للخروج من الأزمة أو خسارة الطرفين (1من2)

ليست الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وليدة اللحظة التي اندلعت فيها بقدر ما هي حصيلة تراكمات تاريخية وجيوسياسية أفرزت تناقضا بين المصالح الاستراتيجية للطرفين. (عربي21)
ليست الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وليدة اللحظة التي اندلعت فيها بقدر ما هي حصيلة تراكمات تاريخية وجيوسياسية أفرزت تناقضا بين المصالح الاستراتيجية للطرفين. (عربي21)
متى ارتأينا أن نكون موضوعيين في طرحنا للمسائل الخلافية بن جهتين متمايزتين في الإيديولوجيا والثقافة والأهداف والاستراتيجيات، حريّ بنا أن نتحرّى البيانات التي نعتمدها في تحليلنا، والتي تكون ذات مرجعيّة ذاتيّة براغماتيّة تستهدف توجيه الرأي العام الداخلي، واكتساب الشرعية المناسبة على المستوى الخارجي، واستمالة القوى غير المنحازة لصفها، إضافة إلى ذلك، وفي سبيل ضمان سلامة مخرجاتنا وتوقعاتنا، يُفترض أن نأخذ المسافة نفسها من جميع الأطراف المُتداخلة في موضوع التحليل.

وفي سياق تحليلنا لأهم المشاغل الدوليّة التي شهدتها العشرية الثالثة من القرن العشرين، والتي تقاطعت فيها اهتمامات كل الدول على اختلاف أحجام قوتها وطبيعة علاقاتها بأطراف النزاع، سوف نتعرّض للنزاع الروسي ـ الأوكراني الذي جاء نتاجا لتراكمات العلل، التي شابت النظام الدولي ذا القيادة الفرديّة لمدّة ثلاثة عقود، واستتباعا لبعض العوامل الثقافية والتاريخية الأصيلة في طرفي النزاع ومكوّنات الأحزمة الداعمة لكليهما، ومن ثم المؤجّجة لهذا النزاع المفصلي في تشكّل النظام الدولي الجديد. فما هي مسببات هذا النزاع العميقة والتاريخية؟ وما هي قوادحه المباشرة؟ وما هي موجّهات هذا الصراع؟ وما هي الرهانات الداخليّة والخارجية لأطرافه؟

وسوف نقوم بتحليل هذه الإشكاليات في إطار ثلاث فرضيّات؛ أولاها انتصار أوكرانيا في هذه الحرب، الذي يمثّل بطريقة غير مباشرة الغلبة الغربيّة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وثانيها انتصار روسيا، ومن ثم تعيد تموضعها في مجالها الجيوسياسي الإقليمي، وتضع حدّا لمرحلة القيادة المنفردة للولايات المتحدة للنظام العالمي الذي صاغته، بما يتناسب واستراتيجيتها القائمة على ديمُومة ريادتها العالميّة، وثالثها إنهاك القوتين والعودة إلى نقطة الانطلاق في معادلة سلام، تعدّها الدول المستفيدة من التخلص من التهديد الروسي لأمنها الإقليمي.

عادة ما تُدار الحرب بين قوتين ترتئيان دحر المخاوف التي تتهدد سيادة كل منهما، أو التخلّص من تهديد قد يتعاظم، فيشكّل في البعد المتوسط أو الاستراتيجي تحديا لديمومة كيان الوطن. فتضحي الدولة بخسائر تقدرها قبل الدخول في المعارك، وتتأكّد أنّ الاستجابة للمخاطر الراهنة بتلك التكاليف على اختلاف فواتيرها، تمثّل انتصارا للأمّة، وتضحية بنفيس من أجل سلامتها واستمراريتها، إلاّ أنّ بعض الصراعات خرجت عن المألوف لتُسطّر لمسارها دربا جديدا متفرّدا يقوم على تصوّرات مُستحدثة، أو انتصارا لمبادئ قد ترى في نُصرتها ثباتا على أصالة القيم التي بُنيت عليها الأُمّة.

مع انطلاقة العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، انطلقت الحرب الروسية الأوكرانية، التي اختلفت حولها التسميات، على الرغم من أنّ المقصود واحد؛ نزاع مسلّح ودموي مدمّر ومُقوّض لأمن المنطقة، وأظّل بظلاله القاتمة على أقاصي مناطق العالم، فهي من وجهة نظر الحكومة الرئيسية المُبادرة بالهجوم، معركة خاطفة تقودها القوات الروسية لحماية الروس والناطقين باللغة الروسية، والمتعاطفين مع روسيا من تنكيل القوات الأوكرانية وممارساتها التمييزية ضدهم، ومن وجهة نظر الأوكرانيين، هي تدخّل سافر في السيادة الوطنية الأوكرانية، واعتداء على وحدة الأراضي وعلى الأمن القومي، ومن ثم هي عدوان واحتلال روسي همجي.

يقول "هربرت إل بومبيرجر"؛ "إنّ نضال عصرنا هو النضال من أجل عقول وقلوب وأرواح البشر. يتمزق الرجال بين أيديولوجيتين متعارضتين وشعوب تجد نفسها تتودد في المعسكرين من قبل الجميع أنواع الدعاية والصفقات الساحرة. المخاطر لكليهما لم تكن أكبر من أي وقت مضى" . فالمجتمع الدولي مدين للأزمة الروسية الأوكرانية الحالية، بتغذيته بمعالم تاريخية غير مسبوقة للمجتمع على مستوى العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية العالمية، التي تساهم من خلال تغيير التوازن الدولي بشكل لا رجعة فيه، في رسم مسار تاريخ سياسي جديد للقرن الحادي والعشرين، تحكمه معادلات علاقات دوليّة خاصّة، وضوابط سياسة عالمية مستحدثة؛ ذلك أنّ التطورات الكارثية الأخيرة في أوكرانيا، ساهمت في ظهور جيوسياسية جديدة، تؤثّث نظاما عالميّا فوق النشط، ونظما إقليمية فرعيّة هشّة، قابلة للانخراط في النزاع في أي لحظة.

أوكرانيا هي ثاني أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم في شرق ووسط أوروبا، وهي على الحدود مع عدد من الدول الأوروبية، وتمتد سواحلها على البحر الأسود وبحر آزوف. ويؤدي موقعها الجغرافي دورا كبيرا في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب أوروبا، مما يجعلها في قلب الضغوطات والمساومات عند تباين المصالح السياسية بين روسيا والغرب.
وفي سياق التعرّض لمسببات النزاع، لا يُمكن قصر عوامله على وجود فواعل مختلة أو ذاتية في العلاقات الروسية الأوكرانية، وإنّما نتيجة لعودة ظهور الهوية الجيوسياسية لأوكرانيا في مواجهة روسيا كقوة قارية تقليديّة. وفي هذا المستوى، وفي سبيل صياغة تصوّر لمآلات هذه الحرب، حريّ بنا أن نتناول بالتحليل الإشتكالات التّالية:
- هل الحرب توسُعية تشُنها روسيا ضد الجمهورية السوفييتية السابقة، يفرضها استكمال بناء الطوق الاوراسي؟
- أم هي استجابة انتقامية من الحكومة الأوكرانية التي وصلت إلى السلطة في 2014م، وأعلنت صراحة فك الارتباط مع روسيا، والعمل على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي؟
- أم هي حرب فرضتها عوامل اقتصاديّة ـ سياسيّة، حتّمت إعادة انتشار روسي لحماية خطوط الغاز (نورد ستريم 2)، ذات التكلفة والعائدات المالية العملاقة؟

أولاـ أطراف الحرب والأطراف المديرة للحرب الأوكرانية:

منذ انطلاقها، لم تكن الحرب القائمة اليوم بين روسيا وأوكرانيا ثنائية الأطراف. فقد كان تدخل أطراف خارجية لدعم هذا الطرف أو ذاك بالمال والعتاد والدعم اللوجيستي ملحوظا منذ البداية، ففي حين اقتصرت روسيا على الاعتماد على وقوف دولة بلاروسيا إلى جانبها، إلى جانب سعيها لتكوين حلف مضاد لحلف الناتو واستمالة الصين، كان الدعم الغربي ممثلا في قوات الحلف الأطلسي دعما قويا ومباشرا ومتطورا بتطور الأوضاع في ميدان المعركة، بما يجعله فاعلا مهما وطرفا رئيسيا من الأطراف المديرة للحرب. لذلك يجدر تحليل الوزن الجغرافي السياسي للطرفين لتحديد السيناريوهات المنتظرة لإنهاء هذه الحرب المدمرة.

1 ـ أوكرانيا:

أوكرانيا هي ثاني أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم في شرق ووسط أوروبا، وهي على الحدود مع عدد من الدول الأوروبية، وتمتد سواحلها على البحر الأسود وبحر آزوف. ويؤدي موقعها الجغرافي دورا كبيرا في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب أوروبا، مما يجعلها في قلب الضغوطات والمساومات عند تباين المصالح السياسية بين روسيا والغرب.

فهي دولة محورية في الجغرافيا السياسية لكل دول المنطقة، وتحديدا الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي. جغرافيا؛ تعد أوكرانيا ضمن الدول العازلة التي تقع بين أوروبا وآسيا، فهي أكبر دولة على الحدود الغربية لروسيا، وأكبر دولة أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي.

أ ـ  الحجم الجيواستراتيجي لأوكرانيا:

اقتصاديا؛ تحتل أوكرانيا المرتبة 56 عالميا من حيث الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ قيمته 200 مليار دولار، وذلك حسب إحصائيات البنك الدولي لعام 2021، وتمتلك حزمة هائلة من الثروات؛ فهي الأولى أوروبيا من حيث الاحتياطيات القابلة للاسترداد من خامات اليورانيوم، والثانية أوربيا والعاشرة عالميا من حيث احتياطيات خام التيتانيوم، الذي يتم استخدامه في صناعة مدرعات المَركَبات والسفن الحربية والقذائف المُوَجَّهة والمركبات الفضائية، والثانية عالميا من حيث احتياطيات خامات المنغنيز الأعلى جودة. كما تعد أوكرانيا رائدة في مجال تصدير الحبوب واللحوم والزيوت ومشتقات الألبان، إضافة إلى الحديد والصلب والفحم الحجري. وتعد دول الاتحاد الأوروبي السوق الرئيسي للصادرات الاوكرانية بنسبة 40%.

وفي المقابل، يعتمد الاقتصاد الروسي على أوكرانيا من خلال عائدات الغاز، إذ يمر بها نصف صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، إضافة إلى علاقات ممتدة ومتعددة الجوانب عرقيا وثقافيا بين روسيا وأوكرانيا، التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي سابقا.

ومن الناحية الاستراتيجية، تمثل أوكرانيا حلقة مهمة في تواصل روسيا مع العالم، فهي بمنزلة البوابة الرئيسية لها مع الغرب. ومن ثم فإن كسبها سياسيا يمكن من فك العزلة عن روسيا، وتعزيز وجودها على الساحة الدولية. كما أن خسارتها سياسيا وخروجها من دائرة النفوذ الروسي، سيعمل على انغلاق روسيا جغرافيا وتقليص نفوذها الأوروبي، وهذا ما جعل المفكر الاستراتيجي الروسي ألكسندر دوغين Alexander Dogin يشبه أوكرانيا بالمنطقة الضعيفة (البطن) في جسد دائرة النفوذ الروسي، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ومن زاوية الجغرافية السياسية، تعدّ أوكرانيا قلب الشرق الأوروبي، الذي هو بمنزلة "قلب العالم" وفق النظرية الجيوبوليتيكية الحديثة، التي صاغها هالفورد ماكيندر(Halford Mackinder (1947-1861) )، حيث أشار الى أن من يحكم منطقة الشرق الأوروبي، هو الذي يحكم قلب العالم، وأن من يحكم قلب العالم يستطيع أن يسود العالم بأكمله. ولذلك برزت أوكرانيا في الوقت الراهن كنقطة محورية في اهتمامات كل من روسيا والبلدان الغربية.

ب ـ التضاريس الجغرافية والسياق الجغرافي السياسي:

مما لا شك فيه، أن التضاريس الجغرافية تؤدي دورا مهما في إدارة العمليات الحربية، خصوصا إذا كانت تتضمن مناطق شاسعة تختلف اختلافا كبيرا من منطقة لأخرى، كما هو الحال بالنسبة لأوكرانيا، حيث يقع الجزء الأكبر من البلاد داخل السهل الأوروبي الشرقي، وتتسم مناطقها المختلفة بخصائص جغرافية متمايزة من المرتفعات إلى الأراضي الوطيئة الى المساحات المفتوحة الواسعة. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فإن مثل هذه التضاريس تصعّب على المقاتلين إدارة عمليات حرب العصابات، كما فعلوا في غابات الشمال والغرب. فقد وجد الأوكرانيون أنفسهم في مواجهة قتال أكثر صرامة في الشرق مما فعلوه في الشمال، حيث وفرت الأشجار غطاء للمقاتلين للتسلل خلف الخطوط الروسية وإطلاق النار على الدبابات والمركبات، باستخدام أسلحة مثل صواريخ "جافلين" التي قدمتها واشنطن لكييف.

ت ـ  تاريخ الخلفية الجيوسياسية مُشكّل لسياق العلاقات الروسية الأوكرانية

ليست الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وليدة اللحظة التي اندلعت فيها، بقدر ما هي حصيلة تراكمات تاريخية وجيوسياسية أفرزت تناقضا بين المصالح الاستراتيجية للطرفين. ويعود هذا التناقض في جوهره إلى تداعيات التفكك التاريخي، الذي شهده الاتحاد السوفيتي السابق، ونزوع دوله إلى الاستقلال الذاتي، وتحديد مصيرها بنفسها. وبعد الانفصال، بقي سؤال الهوية الأوكرانية غير محسوم: هل هي هوية عرقية أم قومية؟ وما الذي يميزها عن الهوية الروسية؟ أم إن الدواعي تظل سياسية بحتة؟ بحيث ظلت أغلبية الشعب الأوكراني تطرح هذه التساؤلات، ولم تقدر القيادة الأوكرانية زمن الانفصال الإجابة عنها؛ مما حدا بالرئيس الاوكراني في تلك المرحلة ليونيد كوتشما، ( 1994 – 2005)، إلى نشر كتاب فريد من نوعه، بعنوان "أوكرانيا ليست روسيا"، وهو ما يعبر عن حقيقة الإشكالية. كما دعّم ذلك الرأي الذي يعد أن الدوافع التي قادت الأوكرانيين للتصويت على الاستفتاء باستقلال أوكرانيا، مرتبطة بأسباب اقتصادية اجتماعية أكثر منها بأسباب تدعم الفكرة "القومية"، التي أدت لبناء الدولة الأوكرانية الجديدة؛ فالتشابك التاريخي والعرقي والقومي والثقافي واللغوي، وحتى الديني، كلها عوامل لا تخدم الهوية الأوكرانية، وتضاعف من تعقيد خلفية النزاع مع روسيا.

ث ـ الهوية الجيوسياسية لأوكرانيا كدولة حيوية إقليميا ودوليا

إذا كانت الجغرافيا السياسية باعتبارها علما لتحليل سياسة وتوجهات أي دولة، تميل إلى الثبات والرسوخ وليس إلى الحركة والديناميكية مثل الجيوبوليتيك، فإنه يمكن القول بأن أوكرانيا تدفع ثمن موقعها الجغرافي الاستراتيجي، الذي جعلها عرضة لطموحات الأطراف الطامعة في التوسع، وبسط النفوذ بين غرب القارة وشرقها. وازدادت هذه المخاوف بتعاظم الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا، بعد انهيار الكتلة الشرقية وحلف وارسو، ومن ثم الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة عام 1991. وهكذا توجد أوكرانيا بالفعل في المساحة المتنازع عليها بين روسيا والغرب، لكنها اليوم أقرب إلى جيرانها في الغرب، وذلك من الناحية الأيديولوجية والعسكرية والاستراتيجية.

لكنها من الناحية الجيوسياسية (الواقعية)، تظل الدولة الأوكرانية اقتصاديا مرتبطة أكثر بروسيا؛ حيث إنها تعتمد بشكل رئيسيّ، على الغاز الطبيعي الروسي في تشغيل اقتصادها، وهي ممر لكميات كبيرة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. في هذا السياق، يندرج انفصال الأجزاء الأوكرانية ذات الأغلبية الروسية مثل القرم، وجاءت المحاولات الروسية لإعادة إحياء الوحدة السلافية متأخرة، في الوقت الذي انفصلت فيه الأجيال الشابة بصورة أو بأخرى عن تلك السردية التاريخية. وهو ما يعطي مشروعية لسردية بوتين التاريخية حول عدم وجود كينونة لدولة أوكرانيا في التاريخ، وأنها كانت موزعة بين الإمبراطوريات السابقة، وأن المناطق من كييف إلى شواطئ البحر الأسود روسية، والمناطق الغربية بولندية، مع وجود مناطق اقتطعت من الإمبراطورية النمساوية المجرية.

وبالمعيارين العرقي والمذهبي، تعد أوكرانيا دولة شقيقة لروسيا الاتحادية؛ فقد ظلت على مدى قرون ركنا أساسيا في القوة السلافية الأرثوذكسية، وكانت مندمجة في الإمبراطورية الروسية منذ القرن السابع عشر للميلاد، إلا أنه منذ الانفصال الأخير، حرصت القيادات الأوكرانية المتتالية على نحت مقومات خاصة للهوية الجيوسياسية للبلاد، انطلاقا من الإعلان الرسمي عن انحيازها التام للغرب، ورغبتها في الانضمام لحلف الناتو، والقطع مع الانتماء التاريخي للشرق الآسيوي. لكن استدعاء التاريخ والهوية العرقية والقومية زمن النزاعات، لا يساعد إلا على تغذيتها، ولا يشكّل إلا مدخلا للانقسام المجتمعي والاحتراب.

2 ـ روسيا:

روسيا هي أكبر بلد في العالم من حيث المساحة، حيث تغطي ثُمن الكرة الأرضية (17,098,242 كيلومترا مربعا)، وهي تاسع أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم بأكثر من 143 مليون نسمة.

يشكل الموقع الجغرافي لروسيا أهمية استراتيجية كبيرة، حيث إنه يقع في شمال قارة أوراسيا، التي يقصد بها، الجزء الشرقي من قارة أوروبا، وفي الجزء الشمالي من قارة آسيا؛ لذلك تمتد روسيا على الجزء الشمالي بأكمله من آسيا، كما تحتل حوالي 40٪ من أوروبا. وتشترك حدود روسيا مع 16 دولة، مثل كوريا الشمالية، والصين الشعبية ومنغوليا وكازاخستان وجورجيا. وبيلاروسيا ولاتفيا وإستونيا وفنلندا والنرويج وليتوانيا وبولندا. كما أن لها حدودا بحرية مع اليابان، ومع الولايات المتحدة الأمريكية.
يمتد تاريخها الطويل إلى القرن الثالث الميلادي، عندما احتلها السلاف الشرقيون.

 وبعد الثورة البلشفية، كانت روسيا هي المؤسس الأكبر للاتحاد السوفيتي. أدّت دورا أساسيّا في انتصار الحلفاء على دول المحور، وتكبدت خسائر كبيرة في الأرواح البشرية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتفككه إلى جمهوريات مستقلة، برزت روسيا أو ما يعرف بـ (الاتحاد الروسي)، كأكبر دولة وريثة للقطب الاشتراكي السابق. روسيا محاطة بإجمالي 13 بحرا، من بينها 12 بحرا من ثلاثة محيطات، ومع ذلك، فهي دولة شبه حبيسة، ليس لها منافذ بحرية مفتوحة، ومن ثم من الطبيعي أن تحرص على الوصول إلى المياه الدافئة، سواء في جوارها المباشر مثل ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، أو ميناء طرطوس في سوريا.

يشكل الموقع الجغرافي لروسيا أهمية استراتيجية كبيرة، حيث إنه يقع في شمال قارة أوراسيا، التي يقصد بها، الجزء الشرقي من قارة أوروبا، وفي الجزء الشمالي من قارة آسيا. لذلك تمتد روسيا على الجزء الشمالي بأكمله من آسيا. كما تحتل حوالي 40٪ من أوروبا.
ونظرا لصعوبة المناخ، يتكتل 75% من السكان الروس على الحدود الغربية بين روسيا وأوروبا، أو ما يطلق عليه "روسيا الأوروبية"، التي لا تتجاوز مساحتها 25% من إجمالي مساحة البلاد. فرضت هذه العوامل الجغرافية على القيادة الروسية، تبني استراتيجية تقوم على اعتبار الدول المجاورة ـ دول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ـ مجالا جيوبوليتيكيا لا يمكن التفريط فيه، بل يجب استثماره كأداة من أدوات الأمن القومي. بل إن التاريخ الروسي قائم على أساس التوسعات؛ بحثا عن منافذ للمياه الدافئة، وضم أكبر مساحات ممكنة لتشكل ـفيما بعدـ قلب العالم الأرضي.

أ ـ الحجم الجيوستراتيجي لروسيا:

تمتلك روسيا تاسع أكبر اقتصاد في العالم، وأول منتج للغاز الطبيعي، وثالث أكبر منتج للنفط بإجمالي ناتج محلي يزيد عن 2.1 تريليون دولار. وبرغم الكلفة العالية للحرب (نحو 80 مليار دولار لحد الآن)، وما أنجر عنها من عقوبات فرضتها الدول الغربية (6000 عقوبة)، فضلا عن فرض حد أقصى لسعر برميل النفط الخام الروسي المنقول بحرا عند 60 دولارا، وحالة الانكماش الشامل في الاقتصاد العالمي ككل، فإن الاقتصاد الروسي تمكن من الصمود بعد ما يزيد عن عام كامل من عمر الحرب، وانكمش فقط بـ 2.2% في 2022 متجاوزا كل التوقعات التي كانت تقدر نسبة انكماش له بين 10 و20٪. وبالعكس كان أداؤه أفضل من دول كبيرة أخرى. وقد رفّع صندوق النقد الدولي من توقعاته لنمو الاقتصاد الروسي إلى 0.3٪ لهذا العام (2023). كما حققت روسيا عائدات إضافية بقيمة 200 مليار روبل من صادرات النفط والغاز، وتسمح هذه الأموال بحل القضايا الضرورية.

وبالإضافة إلى كون روسيا أغنى دول العالم من حيث احتياطي الموارد المعدنية العالمي، تمتلك روسيا إمدادات وفيرة من المعادن الثمينة، ومعظمها يقع في سيبيريا والشرق الأقصى. ساهمت هذه الوفرة في المعادن بتمتع روسيا بالاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، وجعلها من أكبر مصدري الطاقة على مستوى العالم.

ب ـ الهوية الجيوسياسية لروسيا كدولة حيوية إقليميا ودوليا:

تشكلت الهوية الجيوسياسية لروسيا الجديدة بعد الانفصال، وخصوصا مع اعتلاء الرئيس بوتين الرئاسة عام 2000، حيث بدأ الاهتمام أكثر بملف الأمن القومي، وإعطاء الأولوية في السياسة الخارجية للاعتبارات الجيوبوليتيكية، التي تتمحور في فضاءات ثلاثة مترابطة: الفضاء الأوراسي (بحكم أن روسيا تجمع بين آسيا وأوروبا)، والفضاء الأورو أطلسي في علاقة بالغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، والفضاء الآسيوي (آسيا المحيط الهندي)، باعتبار أهمية القوى الدولية هناك، وفي مقدمتها الصين والهند.

وتستند الجغرافيا السياسية للاتحاد الروسي إلى الأيديولوجيا الأوراسية، التي تبناها المفكر الروسي دوغين، والتي تنعكس فيما يسميه بـ"النظرية السياسية الرابعة" (2012 Dugin)، التي تقوم على الرفض التام للنظريات السياسية الغربية، ورفض الحضارة والهيمنة الغربية من خلال نظام العولمة. ويؤمن دوغين أن هناك أمام روسيا خيارين لا ثالث لهما: الأوراسية أو العولمة. ويدعو إلى التعددية القطبية، على أن تكون روسيا واحدة من تلك الأقطاب. ووفق هذه النظرية، تتمثل المحددات الجيوبوليتيكية المحورية لروسيا الاتحادية في: أولا: ضمان الوصول إلى المياه الدافئة. وثانيا: استغلال الموارد المعدنية في صالح الاقتصاد الروسي. وثالثا: تقوية رباط الصلة بين روسيا والقوميات الروسية المنتشرة خارج حدودها. ورابعا: تأمين حدودها الجغرافية، خاصة الغربية، من التهديدات. وأخيرا: تحديد الرؤى المشكلة للسياسة الخارجية للدولة، بما يتناسب مع مصالحها الحيوية.

تحولت هذه النظرية إلى عقيدة عسكرية صادق عليها الرئيس بوتين عام 2014، وحددت أربعة عشر تهديدا للأمن القومي الروسي، يأتي في مقدمتها توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي، واقتراب بنيته العسكرية من حدود روسيا الاتحادية، ونشر القوات الأجنبية في البلدان المجاورة لها. وهنا، تكمن المعضلة الأوكرانية باعتبار أن أوكرانيا التي ما فتئت تطالب بالعضوية في حلف الناتو، تسمح لها العضوية بتأسيس قاعدة عسكرية للحلف على أرضيها، مما يعني اقتراب بنيته العسكرية من الحدود الروسية.

ت ـ الترابط العضوي الروسي الأوكراني:

من زاوية الجغرافيا السياسية، لا تكاد تجد فواصل بين روسيا وأوكرانيا. فهناك ترابط عضوي بين البلدين؛ عائق جغرافي يفصل الأراضي الروسية عن أوكرانيا المجاورة من جهة الغرب، بحدود برية تتجاوز 1500 كم، وتطل على البحر الأسود وبحر أزوف، إلى جانب الارتباط اللغوي والعرقي والديني. فما لا يقل عن 40% من سكان أوكرانيا لهم أصول سلافية، ولغتهم الأم هي اللغة الروسية، ومن الناحية الأثنية، ظلت أوكرانيا محورا مهما للقوة الأرثوذكسية السلافية، منذ أن حولها "فلاديمير الأول" (أمير كييف من 978 : 1015) إلى الدين المسيحي، وتابعة للطائفة الأرثوذكسية. كما يعتقد معظم الروس أن هناك وحدة تاريخية بين البلدين، وأن عاصمة أوكرانيا "كييف" هي"أمَّ المدن الروسية"، وهي منبع الثقافة والدين لهم، ومركزا للحضارة الأرثوذكسية الشرقية.

تستند الجغرافيا السياسية للاتحاد الروسي إلى الأيديولوجيا الأوراسية التي تبناها المفكر الروسي دوغين، والتي تنعكس فيما يسميه بـ"النظرية السياسية الرابعة" (2012 Dugin)،  التي تقوم على الرفض التام للنظريات السياسية الغربية، ورفض الحضارة والهيمنة الغربية من خلال نظام العولمة.
وقد كتب بوتين قبيل اندلاع الحرب مقالا في هذا السياق بعنوان "عن الوحدة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا"، نشر على موقع الكرملين باللغات الثلاث الروسية والأوكرانية والإنجليزية، يشرح فيه كيف أن الروس والأوكرانيين شعب واحد بحكم التاريخ، ينحدرون جميعا من الدولة الروسية الأولى، كييف روس Kievan Rus))، التي تأسست في القرن التاسع، وتمددت من عاصمتها كييف، من البحر الأسود إلى البلطيق. وقد استدعى المقال نقاشا واسعا ليس فقط في أوكرانيا وروسيا، بل على مستوى أوروبا بصورة عامة، حتى إن بعض المحللين وصف المقال بكونه "إنذارا أخيرا" لما قبل الحرب.

يؤمن معظم الروس القوميين، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين، أن روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا دول شقيقة، تنحدر جميعا من الدولة الروسية الأولى، كييف روس (Kievan Rus)، التي تأسست في القرن التاسع، وتمددت من عاصمتها كييف، من البحر الأسود إلى البلطيق.

ث ـ دور تمدد حلف شمال الأطلسي تهديد للأمن القومي الروسي:

من وجهة نظر روسية، يعد العامل الرئيس لإعلانهم الحرب على أوكرانيا، هو تمدد حلف شمال الأطلسي شرقا، بما يعدونه تهديدا مباشرا للأمن القومي. فبعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وانفصال معظم دوله، بدأ حلف الناتو في سلوك سياسة التمدد المتدرج والمدروس، الذي تم على ثلاث مراحل: الأولى بدأت مبكرا حينما تم ضم ألمانيا الشرقية سنة 1990 ثم التشيك وهنغاريا (المجر) وبولندا سنة 1999في أوج الضعف الروسي. والثانية سنة 2004 وشملت كلا من بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، فيما كانت المرحلة الثالثة ما بين 2009 و2020 لتضم بلدانا مثل ألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود (التي كانت جزءا من صربيا) ومقدونيا الشمالية. لقد شكلت استراتيجية التمدد والتطويق للنفوذ الروسي من قبل دول حلف شمال الأطلسي، عاملا جوهريا في دفع روسيا إلى خوض الحرب في القوقاز وجورجيا، وضم شبه جزيرة القرم لاستعادة مجالها الحيوي. ومن ثمّ يكون إقدامها على الدخول في الحرب مع أوكرانيا تتويجا لهذا المسار.
التعليقات (0)