قضايا وآراء

قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية

عادل بن عبد الله
يشير الكاتب إلى "أولئك الذين ذهبوا لدعم النظام" في سوريا- صفحة الحرس القومي العربي
يشير الكاتب إلى "أولئك الذين ذهبوا لدعم النظام" في سوريا- صفحة الحرس القومي العربي
بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا، يبدو أن هذا الحدث سيمثّل مناسبة أخرى -بعد الثورتين المصرية وما أعقبها من انقلاب عسكري، والثورة الليبية وما أعقبها من تقسيم واقعي، وإن كان غير مُدستر، لليبيا-، لتكريس الانقسام العميق بين النخب التونسية. وبصرف النظر عن المآلات الكارثية لهذا الانقسام ودوره في إفشال الانتقال الديمقراطي، فإننا نستطيع رده إلى الموقف من الحركات الإسلامية، وموقعها في بناء المشروع الديمقراطي، أو المشترك المواطني من وجهة نظر النخب "العلمانية" المهيمنة والمتعامدة وظيفيا مع الدولة العميقة، ويمكن رده أيضا إلى حقيقة "الربيع العربي"، وعلاقته بأجندات الدوائر الاستعمارية والصهيونية في سرديات الأنظمة القديمة والنخب العلمانية، بما فيه الكثير من النخب "الثورية"، أو المعارضة للنظام الاستبدادي في لحظتيه الدستورية (نظام الراحل الحبيب بورقيبة) والتجمعية (نظام المخلوع بن علي).

وسنحاول في هذا المقال، قراءة أهم تلك المواقف من خلال البيانات الرسمية للسلطة وللمنظمات المدنية خلال الثورة وبعد سقوط النظام، كما سنقوم باستقراء عفوي -أي لا يدعي العلمية- للسجال العمومي في وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية التقليدية، التي تعبّر عن "التوجهات العامة" لأصحاب السرديات الكبرى، داخل ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" قبل سقوط النظام وبعده.

الملف السوري، هو جزء من الأمن الداخلي والخارجي في تونس (خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير)، ولا شك أيضا في أن المواقف الديبلوماسية يجب أن تكون مدروسة وغير متسرعة. فالموقف التونسي لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية الداخلية، بل لا يمكن فصله عن موقف حلفاء النظام التونسي إقليميا ودوليا.

من جهة السلطة الرسمية في تونس، فإن الرئيس قيس سعيد قد جاء إلى قرطاج سنة 2019 بمواقف علنية، لا تختلف عن الموقف الذي اتخذه الرئيس الأسبق منصف المرزوقي؛ بقطع العلاقات الديبلوماسية مع النظام السوري في شباط/ فبراير 2012، ولكنّ الرئيس سعيد وجد أيضا خطوة رسمية كانت قد ذهبت في الاتجاه المعاكس -أي اتجاه الانفتاح على النظام السوري-، بعد أن قررت حكومة مهدي جمعة -على عهد رئاسة الباجي قائد السبسي- فتح مكتب لإدارة شؤون التونسيين في سوريا، وهو ما يعني أن "التطبيع" مع النظام السوري قد بدأ زمن "التوافق"، مما يوجب تنسيب المزايدات الحالية لأنصار حركة النهضة وحلفائها.

بعد أن دخلت تونس "حالة الاستثناء" منذ 25 تموز/ يوليو 2021، توالت خطوات التطبيع مع النظام السوري، وبدأت مرحلة التقارب العلني التي انتهت بعودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في نيسان/ أبريل 2023. وبحكم القاعدة الشعبية لـ"تصحيح المسار" ولموالاته النقدية، -وهي قاعدة تنتمي أساسا إلى التيارين القومي واليساري وورثة المنظومة القديمة-، فإن الموقف الرسمي من سوريا كان موقفا منتظرا، بل كان موقفا متماهيا مع انتظارات الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية" المدنية والسياسية، بما فيها بعض القوى المعارضة للنظام في مسار "تصحيح المسار" ومآلاته الحالية.

حرصت الديبلوماسية التونسية حتى آخر أيام النظام السوري على إصدار مواقف مساندة له، بل متماهية معه، فقد أصدرت الخارجية التونسية قبل أيام من سقوط النظام بيانا ندّدت فيه "بشدة بالهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا في المدة الأخيرة"، مُعربة عن "تضامنها التام مع الجمهورية العربية السورية"، وداعية "المجموعة الدولية لمساندتها حتى تحافظ على سيادتها وأمن شعبها واستقرارها ووحدة أراضيها".

رغم تذكير وزارة الخارجية إثر سقوط النظام السوري بأن "تونس تتمسك بالتفريق بين الدولة من جهة والنظام القائم داخلها من جهة أخرى"، فإن هذا المبدأ الديبلوماسي لم يدفع بالوزارة إلى تهنئة الشعب السوري، أو إلى التعبير عن الرغبة في بناء علاقات أمتن مع النظام الجديد على قاعدة المصالح المشتركة للبلدين، بل اكتفى البيان بتأكيد "ضرورة تأمين سلامة الشعب السوري والحفاظ على الدولة موحّدة كاملة السيادة، بما يحميها من خطر الفوضى والتفتيت والاحتلال، وعلى رفض أي تدخل أجنبي في شؤونها".

ولا شك في أن المتتبع للشأن السوري، سيجد في هذا البيان الكثير من "الإنشاء" الذي لا علاقة له بـ"الخبر" السوري (واقع الفوضى والتفتيت والاحتلال، وواقع التدخل الأجنبي في شؤونها، بل واقع عدم سلامة الأغلب الأعم من الشعب السوري زمن النظام البعثي البائد).

لا شك في أن الملف السوري هو جزء من الأمن الداخلي والخارجي في تونس (خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير)، ولا شك أيضا في أن المواقف الديبلوماسية يجب أن تكون مدروسة وغير متسرعة؛ فالموقف التونسي لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية الداخلية، بل لا يمكن فصله عن موقف حلفاء النظام التونسي إقليميا ودوليا.

ومن المنتظر أن يعيد سقوط النظام السوري ملف "التسفير" إلى الواجهة، ونحن لا نعني بالتسفير فقط أولئك المتورطين في تسفير التونسيين لمقاتلة النظام السوري، بل نعني أيضا أولئك الذين ذهبوا لدعم النظام (كتيبة محمد البراهمي)، فكلا الفعلين قد تم خارج الإطار الرسمي، بل ضد التوجه الرئاسي القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما يوجب بناء مقاربة مختلفة لملف التسفير؛ تمهيدا لبناء علاقات جيدة مع النظام السوري الحالي.

استقراء مواقف المنظمات/ النخب "الديمقراطية"، يضعنا أمام حقيقتين متعامدتين: أولا، اختزال الثوار ومطالبهم المشروعة في كونهم "إرهابيين" و"عملاء" للغرب في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو "الربيع العبري"؛ ثانيا، اختزال النظام في بُعد "المقاومة والممانعة" والتصدي لذلك المشروع الصهيوني- الإمبريالي، مع تهميش نسقي لكل جرائمه في حق الشعب السوري.

لفهم مواقف أغلب النخب "الديمقراطية" التونسية من سقوط النظام السوري، سيكون علينا أن نعود إلى مواقفها من ذلك النظام منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية. إن استقراء مواقف المنظمات/ النخب "الديمقراطية"، يضعنا أمام حقيقتين متعامدتين: أولا، اختزال الثوار ومطالبهم المشروعة في كونهم "إرهابيين" و"عملاء" للغرب في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو "الربيع العبري"؛ ثانيا، اختزال النظام في بُعد "المقاومة والممانعة" والتصدي لذلك المشروع الصهيوني- الإمبريالي، مع تهميش نسقي لكل جرائمه في حق الشعب السوري.

ونحن هنا أمام براديغم/ نموذج تفسيري تم تفعيله في الشأن التونسي، وإسقاطه بعد ذلك على مجمل الثورات العربية. ففي تونس، أُسند إلى الإسلام السياسي -بما في ذلك حركة النهضة- دور "الإرهابي" و"العميل"، وأُسند إلى "القوى الديمقراطية" -بما فيها ورثة النظام القديم- دور "الممانع" و"المقاوم". وهو ما يضع الصراع السياسي في مدار وجودي لا يقبل التسوية أو العمل المشترك بين "الديمقراطيين" و"الإسلاميين"، سواء في تونس أو في خارجها.

إن اعتماد هذا النموذج التفسيري هو ما دفع بأغلب "القوى الديمقراطية" إلى مناصرة النظام السوري -ومن قبله الانقلاب العسكري المصري باعتباره "ثورة تصحيحية"-، وهو ما دفعهم إلى التواصل العلني مع النظام السوري، كما فعل وفد اتحاد الشغل سنة 2017 ونقيب الصحفيين التونسيين ناجي البغوري سنة 2018. بل إن هذا النموذج التفسيري هو ما دفع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان إلى الدعوة إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية مع النظام السوري ورفع الحصار عنه. فرغم الطابع الكوني لمنظومة حقوق الإنسان، فإن "الحقوقيين التونسيين"، لم يروا في الملف السوري من التجاوزات السلطوية ومن القمع للحقوق الفردية والجماعية ما يدعو إلى انتقاد النظام.

أما المنظمات النسوية (مثل النساء الديمقراطيات والاتحاد الوطني للمرأة التونسية)، فإنها لم تر في واقع النساء السوريات ما يدعو إلى التضامن أو انتقاد النظام البعثي القائم. ولا شك في أن الاحتكام إلى المنطق الاختزالي في فهم الثورة السورية ومجمل الثورات العربية -مع إسقاط الصراعات الهوياتية التونسية على الواقع السوري، بالإضافة إلى العلاقات النوعية مع محور الثورات المضادة-، كل ذلك قد جعل من الحتمي أن يكون أغلب الديمقراطيين التونسيين ظهيرا للنظام السوري، ومدافعا شرسا عنه حتى بعد سقوطه.

بعيدا عن المواقف الرسمية، فإن استقراء مواقف أغلب النخب "الديمقراطية" في مواقع التواصل الاجتماعي وفي منابر الإعلام التقليدية، يظهر أنها كانت داعما قويا للنظام البعثي السوري. وقد يكون علينا في هذا الموضع، أن نشير إلى أن الملفات الخارجية كلها (الملف السوري، الملف المصري، الملف الليبي.. إلخ)، هي عند النخب "الديمقراطية" مواضيع متاحة، وليست الموضوع المقصود أو الموضوع الأصلي.

فالمواقف من الملفات الإقليمية هي عملية تعميم نسقي للموقف من الإسلاميين بمختلف مرجعياتهم في تونس. فالإسلامي -سواء قبل العمل القانوني ومنطق الحقل السياسي الحديث أم لم يقبل-، هو عدو وجودي لأي مشروع ديمقراطي. وهي عداوة تتجاوز الإسلاميين؛ لأنها تتعلق بـ"الاستثناء الإسلامي"، أي بذلك التعارض الجوهري والنهائي الذي يفترضه العلمانيون بين الإسلام في ذاته والديمقراطية. وإذا أضفنا إلى ذلك إصرار أغلب "الديمقراطيين التونسيين" على "عمالة" الإسلام السياسي السني، وطابعه الوظيفي المعادي لمحور "المقاومة والممانعة"، والخادم لمشروع الشرق الأوسط الجديد، فإننا نفهم البنية العميقة لمواقف النخب "الديمقراطية" من الإسلاميين في تونس وخارجها.

يبدو أن العقل السياسي الذي أفشل الانتقال الديمقراطي في تونس، يعيد إنتاج نفسه (بمصادراته وصوره النمطية ومصالحه المادية والرمزية)، عند مقاربة الثورة السورية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا، فهو يُصر على "طيّ" كل جرائم ذلك النظام، وعلى إنكار المطالب المشروعة للثوار السوريين، كما يصر على اختزال الثورة في مشروع إرهابي، هدفه ضرب الدولة السورية وخدمة الكيان الصهيوني.

إن نقد هذا الطرح وبيان تهافته لا يحتاج إلى حجج كثيرة؛ فمن جهة التعارض المتوهم بين الإسلام والديمقراطية، فقد أثبتت العديد من التجارب السياسية عدم صوابية هذا الحكم (تجارب جنوب شرقي آسيا والتجربة التركية)، أما حجة "عمالة" الإسلاميين السنة، فيكفي لنقضها التذكير بالنواة الصلبة للمقاومة الفلسطينية، وهي نواة إخوانية (أي سُنّية). أما التخويف من الإسلاميين في بناء البديل الوطني السوري، فيكفي أن نذكّر "الديمقراطيين" بأن الأنظمة التي دافعوا عنها وما زالوا يدافعون -في سوريا وليبيا ومصر وإيران.. إلخ- لا يمكن أن تكون نماذج سياسية صالحة للدفاع عن الديمقراطية، أو عن احترام الحريات الفردية والجماعية. فإقصاء الإسلاميين -وبصورة أصح استهداف أي معارض للأنظمة الاستبدادية-، لا يجعل من أي نظام نظاما ديمقراطيا بالضرورة، بل إن اعتماد حجة "الممانعة والمقاومة"، لا يمكن أن يكون مبررا للدفاع عن نظام دموي طائفي، لم يحرر شبرا من أرضه (الجولان)، ولكنه نجح في تدمير بلده وبناء منظومة استبداد، لا تختلف في بشاعتها عن بشاعة المشروع الطائفي المقابل بقيادة القاعدة وداعش.

ختاما، يبدو أن العقل السياسي الذي أفشل الانتقال الديمقراطي في تونس، يعيد إنتاج نفسه (بمصادراته وصوره النمطية ومصالحه المادية والرمزية)، عند مقاربة الثورة السورية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا، فهو يُصر على "طيّ" كل جرائم ذلك النظام، وعلى إنكار المطالب المشروعة للثوار السوريين، كما يصر على اختزال الثورة في مشروع إرهابي، هدفه ضرب الدولة السورية وخدمة الكيان الصهيوني.

ورغم تهافت هذا المنطق، فإن الرهانات الداخلية في تونس تجعله يتصلب أكثر بعد سقوط النظام السوري؛ فـ"الديمقراطيون" يعلمون جيدا أن نجاح الإسلاميين السوريين وشركائهم من مختلف الأطياف في بناء الدولة بعد خرابها، سيؤثر بالضرورة على الداخل التونسي، بل ستكون له تأثيرات مؤكدة على مواقف القوى الدولية من الإسلاميين في الإقليم كله؛ ولذلك يسارعون إلى بناء سيناريوهات كارثية لمستقبل سوريا (وكأنها كانت تعيش في جنة البعث)، وإذا خانتهم الوقائع، بادر الكثير منهم إلى اختلاقها وترويجها على الأقل لمنع أي تعديل في مواقف من يشبهونه. فالمهم ليس القاعدة الأخلاقية لإدارة الخلاف مع الخصوم، بل المهم هو التصدي للموجات الارتدادية للطوفان السوري، ولو على حساب الحقيقة والموضوعية.

فهل يختلف موقف حركة النهضة وحلفائها في المعارضة عن مواقف "القوى الديمقراطية" من الثورة السورية؟ وما هو تأثير سقوط النظام السوري على المشهد السياسي في تونس، وما هو الاتجاه المتوقع لذلك التأثير، وما هي حدوده المتوقعة؟ وهل تمتلك حركة النهضة أي أفضلية أخلاقية أو سياسية على خصومها، فيما يتعلق بالموقف من الثورة السورية بعيدا عن المزايدات الخطابية؟ إنها الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في المقال القادم بإذن الله، بعيدا عن الادعاءات الذاتية وعن منطق الرغبة، وآلية الإسقاط المهيمنة على الأغلب الأعم من الفاعلين الجماعيين في تونس، بما في ذلك حركة النهضة.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)