مقالات مختارة

نظام احتضار دموي مزمن قاده "سفّاح مدنيّ"

وسام سعادة
فيسبوك - موقع ساحة الأمويين
فيسبوك - موقع ساحة الأمويين
ما كان بمستطاع نظام الأخوين السفاحين أسد الاستمرار، لولا تدخل روسيا وإيران والجحافل المرتبطة بالأخيرة.

يبقى أنه ليس بمستطاعنا سوى الانصراف للمخيلة والتخمين والتقدير. بالنسبة لما كانت ستؤول إليه الحال، لو أن هذا النظام الفئوي الدموي كان انهار قبل ثماني سنوات، بدلا من أن ينتظر كل هذا الوقت، ويسارع إلى حتفه في إثر تزايد ضعفه، وضعف حماته الخمينيين الإيرانيين واللبنانيين بعد الحرب الأخيرة.

ومع أن النظام مدين لموسكو بالاستمرار طيلة هذه السنوات جاثما فوق صدور سكان حلب ودمشق، ومتسببا بخروج تسعة ملايين سوري من بلادهم وتفرقهم بين المنافي، فإن مؤاثرة روسيا عدم القيام بأي جهد وساطي لمحاولة ثني إسرائيل عن استهدافاتها طيلة العشر سنوات الأخيرة للمناطق السورية، حتى عندما كان فيها جيش روسيا تتدخل بسلاح الطيران لضرب الفصائل المعارضة، أو للإشراف على نقل مسلحيها بالباصات في اتجاه ريف إدلب، أو تسليط الشرطة العسكرية الروسية على مناطق من سوريا، هنا لرعاية «مصالحات» وهناك لحماية السكان من «الحليف الإيراني» ثقيل الوطأة، ومن دون إغفال صولات مرتزقة مجموعة فاغنر.

كل هذا من دون أن توقف روسيا تنسيقها مع الجانب الإسرائيلي على موعد الغارات. وفي كل هذه السنوات، طفق نظام الأخوين الأسد «يحتفظ بحق الرد» ويصدر بيانات الدعم لروسيا في حربها على أوكرانيا، وفي النهاية دعمته روسيا بالغارات لاعتراض تقدم قوات المعارضة بقيادة «هيئة تحرير الشام» نحو حلب فحماة فحمص، قبل أن تعلم قيادتها رأس هذا النظام بأن اللعب انتهى. لم يقم الأخير بأي محاولة للحفاظ على أي شكلانية دستورية، كمثل نقل السلطة لنائب الرئيس. هرب بالشكل الخسيس المنتظر أساسا من كل من خبره.

سقط نظام آل الأسد القائم منذ 24 عاما على مفارقة التوريث الرئاسي. هذا التوريث الذي أثار لعاب عدد من الرؤساء العرب يومها، ما ساهم بتساقطهم، بالأخص في مصر. وجه المفارقة في موضوع التوريث، أن النظام الأسدي طبيعته عسكرية وحزبية وعائلية وطائفية، لكن التوريث لبشار كان توريثا لشخص من خارج السلك العسكري، مقحم عليه بالتعسف، ومن خارج الحزب، ما ساهم في تحويل الأخير إلى كاريكاتير محض.

لم تفضل سوى الاعتبارات الحزبية والطائفية المركبة، طالما أن النظام الذي أقامه حافظ الأسد قائم على تفاهم عقده من موقع القوة مع البرجوازية السنية الدمشقية على أساس معادلة شوكة الحكم؛ لنا ولكم الأعمال ونتاج أعمالكم لنا ولكم، ونحن نحميكم من أنفسكم ومن سواكم، ونحمي كل شريحة من الأخرى، وعلى هذا الأساس يسوّغ الإرهاب الدائم الذي يقوم عليه نظام الطغيان.

نجح التوريث في سوريا عام 2000 لأن الابن ولو أنه من خارج الجيش والبعث، إلا أنه كان بمستطاع توليته ضمان السمة المتعددة العسكرية والبعثية والطائفية والعائلية للنظام. لكن الابن لم يستطع الحفاظ على تفاهم والده مع البرجوازية طويلا.

كرر مشكلة عبد الحميد السراج السني وصلاح جديد البعثي اليساري معها، هذا بعد أن حاول تلافي ذلك في البداية. نهم أقربائه وأولاد الضباط الأساسيين الآخرين لتشكيل شريحة أوليغارشية جديدة، عكس اختلالا في اللعبة، لكن المشكلة زادت مع قتل الرئيس رفيق الحريري في بيروت، وانسحابه في إثر ذلك من دمشق، ثم جاءت الثورة عام 2011 فوقفت البرجوازية المدينية في موقع لا هي قادرة على الانحياز للمنتفضين، ولا هي قادرة على أن تنجو بنفسها من الحرب، والخيارات المدمرة اقتصاديا التي يتبعها النظام وصولا إلى زيادة فظاظة أهل النظام تجاهها.

اليوم أيضا تمثل القدرة على تحقيق تفاهم مع البرجوازية الدمشقية والحلبية، جزءا أساسيا من التحديات التي يتوقف عليها إمكان تأمين المرحلة الانتقالية، التي لا تزال غامضة الطابع في سوريا. زد على أنه من الصعب تفادي التناقض بين منطقين؛ أحدهما يقول بأن السلطة ينبغي أن تؤول لمن أسقط الطاغية في نهاية المطاف، والمنطق الآخر مضاد له؛ يقول إن السلطة لمن بمستطاعه بناء نظام للحرية.

التعارض بين المنطقين بديهي، وليس من الممكن شطب أي منهما؛ هو تناقض إنساني في النهاية بين نمطين من أنماط تعليل الأحقية، ومن يرى النظام البائد بالمعنى الدنيوي أولا، كطغيان، ومن يراه، بالمعنى الديني أولا، كطاغوت. النظام الذي انهار يتحمل المعنيين، لكن كيف تفادي عدم التصادم بين من يفرح لسقوط الطغيان أولا، ومن يفرح أكثر لسقوط الطاغوت؟


يبقى أن تضحيات عموم السوريين أكبر بكثير من تضحيات أهل السلاح، وليس هذا بتفصيل. ويبقى أن ميزان القوى لا يتحدد بمعايير الداخل السوري فقط، وأننا نعيش جميعا، في كنف الهيمنة الأمريكية بعيدا عن أوهام انكسارها، التي أدمنت عليها قوى الممانعة حتى خرّت صريعة.

لقد سقط واحد من أشد الأنظمة همجية في تاريخ العرب، نظام تختصر كل علة وجوده في الحرب الدائمة على الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، وفي سجن الناس في صيدنايا وسواها من المعتقلات شبه النازية. نظام استخدام غاز السارين من الغوطة حتى خان شيخون. نظام قتل اللبنانيين والفلسطينيين.

وهو نظام قاده «مدني ابن عسكري» بالمحصلة، في حالة تذكر أيضا بأن صدام حسين هو الآخر لم يكن عسكريا، بل مدنيا «تعسكر».

لعله السقوط الأكثر جذرية في كامل خارطة التساقطات المرتبطة بالثورات الربيعية العربية، ولو أن هذا حدث بعد ثماني سنوات من «تجميد وتأجيل» النصر الثوري، ومن تبديل طبيعته، وجعله أكثر استجابة لقطب واحد، هو «قائد العمليات العسكرية» أحمد الشرع الذي اعتدنا عليه على أنه «أبو محمد الجولاني» كل هذه السنوات. ويحدث هذا في ظل استباحة إسرائيلية للجنوب السوري، ولمخلفات الجيش السوري من قطع ومن أعتدة، وهذا واقع داهم لا يمكن تنحيته جانبا والانصراف إلى تدبر قضايا الحوكمة الداخلية فقط.

يبقى أن النظام الذي انهار والمعارضة ذات السمة السلفية التي تتصدر مشهد إعادة تكوين السلطة اليوم، يفرضان نوعا من الإقرار بالفاتورة الباهظة جدا للكارثة الذي تسبب بها حافظ لكن بدرجة لا توصف بشار الأسد. ليس فقط على صعيد الإنسان والعمران. أيضا على صعيد الأفكار والأيام الآتية.

فعندما توافيك أنظمة بهذا السوء، أقامت كل لعبتها على أنها أنظمة تقدمية وتحديثية وتحريرية، بوجه مجتمعاتها الرجعية والمُستَلَبة، فلا يسعك، إن كنت أنت أيضا تقدّم نفسك كتقدمي، إلا أن تشعر بأن تقدميتك أنت وليس فقط تقدمية هذا النوع الكالح والمفلس من الأنظمة على المحك.
متهافتة من تلقائها، والحال هذه، محاولة تسوية الموضوع تلفيقيا، كما لو أن المشكلة تكمن مرة جديدة في التطبيق وليس في النموذج، أو أنها محصورة في النموذج بحد ذاته، وليس في الفكرة أو في المقصد من وراء هذا النموذج.

سقوط هذا النوع من الأنظمة، يستدعي أيضاً إعادة التفكير في سمات الخطاب التقدمي التحديثي العلماني عند العرب، ولماذا فشل في أن يوجد لنفسه أرضية «جمهورية»، وينتهي الأمر لليسار إلى التشظي بين فئة ترفض الاستبداد القائم، لكنها لا تعرف كيف تحدد نفسها تجاه الإسلاميين، وفئة لا ترى إلا استعمارا، وترى في مملكة التوريث الجمهوري الفئوي الأسدية التي سلمت أرضها لإيران والروس، ولم ترد يوما على اعتداءات إسرائيل – وحاولت دائما إقناع الغرب بأن الدنيا تخرب إن سقط بشار الأسد –، نموذجا لمواجهة الغرب والإمبريالية!

في الوقت عينه، الواقع لن تتوقف حركته ولا مكائده، وأن تنظر إلى الأمام، يعني أن تكون قادرا على رؤية كم الأفكار المعادية للعقلانية والتنوير من حولك، خاصة حين تصبح النزعة التقدمية محسوبة على نظام كالذي اندثر.

والحل هنا لا يكون برمي التقدمية مع النظام الذي كان يزعم شيئا منها، ويبدي النزعة المحافظة عليها حين يجد ذلك أسلم له، أي في غالبية الوقت. التقدمية العملية أكثر ضرورية من ذي قبل، وهي تنطلق اليوم من جملة أسئلة: ما الموقف من المساواة القانونية بين البشر في مجتمع ما؟ ما الموقف من الحريات العامة والخاصة؟ ما الموقف من موضوع الحرب والسلام، وهل ثمة استعداد لمن يريد تولي الأمور في دمشق لمغادرة منطق «الاحتراب المستدام»؟

القدس العربي
التعليقات (0)