قضايا وآراء

حسام أبو صفية.. الطبيب والشهيد الحي

أحمد عويدات
"كان الملاك الأبيض يتحرك بخطى ثابتة وسط الصمت المريب والخذلان"- عربي21
"كان الملاك الأبيض يتحرك بخطى ثابتة وسط الصمت المريب والخذلان"- عربي21
ظهر ماردا بين الأنقاض بردائه الأبيض، يحمل مبضعه وشرفه أمام دبابات المحتل، غير آبه لقذيفة قد تمزق جسده، خرج من عرينه المدمر وألسنة النار، لا زالت تلتهم أسرّة المرضى والتجهيزات وما تبقى من مواد ودواء، كان آخر الخارجين وليس أولهم، بعدما رفض مرارا وتكرارا أوامر جيش الإحتلال بالإخلاء، خرج رافع الراس متحديا، ومعه شجاعة وجرأة شعب صمد لأكثر من 15 شهرا. خرج الطبيب الجريح العنيد الصلب ابن الشعب الأسطورة والملحمة التاريخية الفريدة، التي ستُسجّل في سجل غينيس للأرقام القياسية تحت اسم 365 كيلومترا مربعا ونحو 450 يوما من الصمود بمواجهة الاحتلال والعدوان والخذلان.

ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان، ولربما تتحدث عن أهوال جرائم حرب ارتكبت بحق المرضى من أطفال ونساء وكبار السن، وعن إعدامات للطواقم الطبية هناك.

ظهر الطبيب ملاكا واثق الخطى أمام شياطين القتل والدمار والإرهاب، وكان يعلم أن مصيرا مجهولا ينتظره، ولكنه يعلم أيضا أنه ترك إرثا استثنائيا ستتحدث عنه الأجيال مطولا، وستتصدر صورته أيضا صفحات الجرائد والمجلات، وسيتحدث عنه الكبار والصغار، وستتناقل أخباره شاشات التلفزة ووكالات الأنباء، ولربما تتحدث عن فظاعة جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في أثناء حصارها وقصفها وإحراقها واقتحامها لمشفى كمال عدوان.

كان الملاك الأبيض يتحرك بخطى ثابتة وسط الصمت المريب، والخذلان الذي تجاوز كل الحدود والمسميات، تحرك نحو المشهد الذي يخافه الجبناء، ولا يليق إلا بالنبلاء الأبطال، تحرك نحو آلات القتل والتدمير، ولم يثنه الموت المنتظر أو الاعتقال أو التنكيل القادم لا محالة. خرج الطبيب من بين الأنقاض وأكوام الركام والجثث الملقاة أمام المشفى الشاهد والشهيد، خرج من الجغرافيا الصغيرة ولكنه لم يخرج من التاريخ، خرج من المشهد ولكنه ليس من المشهد الأخير الذي ينتظره دعاة الحقوق والإنسانية تاركا وصمة عار، بل وصمات عار على جبين الشقيق والصديق القريب والبعيد، بصمات عار على جباه جميع المتفرجين على مأساة المشفى المحاصر، وعلى أولئك الصامتين المشاركين باغتيالها، ترك بصمات عار ولطخات ذل على وجوه كل المستنكرين والمنددين.

ولم ينس أن يدمغ بصمات عار على ما تبقى من وجه للسلطة ورجالها الأمنيين، الحريصين على أمن وسلامة الصهاينة المستوطنين، بصمات عار لأولئك الذين يحاصرون، بل يقصفون جنين ويعتقلون ويقتلون المقاومين.

خرج الحسام ماردا، وفي فمه الكثير مما يقال، ووصية قبل المشهد الأخير، أن قاوموا حتى الرمق الأخير، إن التاريخ يقف عندكم وصفحاته مفتوحة لكم؛ لتؤرخوا هذه الأحداث وهذا الصمت والخيانات، صفحاته مفتوحة لكم لكي لا تساوموا قتلة الأطفال ودعاة بناء الهيكل، لا تساوموا قتلة النساء والجرحى، والمنكلين بجثث الشهداء. رابطوا حتى ولو وراء أجسادكم النحيلة التي أضناها الجوع والعطش والمرض والبرد، رابطوا واجعلوا من كل جسد لكم متراسا ولا تنتظروا أحدا، فلن يأتوا لأن تصاريحهم مرهونة لدى العم سام. لا تكونوا كمن انتظر "غودو"، ولما يأتِ أبدا. لقد أعيانا نداء: وامعتصماه، واعمراه، واحمزاه، واعلياه، واعرباه، واإسلاماه، واعيساه.. الكل أدار ظهره إلى الحائط، إلى حائط بعيد حتى لا يُرى، الكل أصمّ آذانه، وجعل لها قفلا من فولاذ وحديد، الكل أغشى عينيه وكبّل يديه وقيّد ساقيه، وأعلن ثباته في أرض الخنوع والهوان.

بقي الحسام طبيبا وشهيدا حيّا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا، وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال.

لقد استيقظت قريش على ندائنا ولم يشعر عرب اليوم بنا، وأبى أبو جهل إلا أن يُنجدنا، ولكن الموت قد عاجله، وانتفض الجاهليون، وأطراف حرب الردّة، والمتقاتلون في داحس والغبراء، ولم يستجب أحدٌ من العرب، ولم يأتِ الأكسجين ولا الدواء ولا الوقود، فسقطت كل المشافي من قبل أيها الطبيب. وها هو مشفاك "كمال عدوان" آخر قلاع الإنسانية يسقط مضرجا بدماء جرحاه وطواقمه ومرضاه، وشهدائه، سقط شهيدا وتم اغتياله، لكن مع سقوطه سقطوا معه جميعا سقوطا مخزيا مدويا، سقطت مع أولئك المتفرجين أقنعتهم الزائفة وورقة التوت التي غطّت عوراتهم، وبقيت رائحتهم العفنة وصورهم المشوهة وكلماتهم الكاذبة على الجدران المحترقة للمشفى، بقيت صور خذلانهم معلقة في ضمائر ووجدان الإنسانية العاجزة، وبقيت لعنتهم على أكفان الشهداء النازفة التي لم يتمكن أحد من دفنهم دفنا كريما يليق بصمودهم. انهار الضمير والوجدان الإنساني، انهارت منظومة القيم والمبادئ العالمية حتى مات الأطفال الرضّع بردا؛ تجمدت قلوبهم والدماء في عروقهم، وتبلدت أحاسيس ومشاعر العالم حتى قُطعتْ أجهزة التنفس عن المرضى بأيدي الجلادين الصهاينة "دفاعا عن النفس".

هناك توقفت الحياة، وانتهى المشهد الهوليودي المثير، وبقي الحسام طبيبا وشهيدا حيّا، وربما شاهدا وحيدا.. كم كنت كريما عزيز النفس! وبقيت وظهرت عزيزا، وستبقى تاريخا وتأريخا للذاكرة والأجيال.

ahmadoweidat2@gmail.com
التعليقات (0)

خبر عاجل