يعلم معظم السوريين والفلسطينيين
وحشد من العرب قبل سقوط نظام
الأسد وانتصار الثورة السورية بتاريخ 8 كانون الأول/
ديسمبر 2024، بفظائع وجرائم ترتكب بحق الإنسانية في
سجون وأقبية هذا النظام، وما خفي
منها أعظم، لتعود إلى الواجهة قضية
المعتقلين في السجون ومن قضوا تحت التعذيب،
وذلك بعد اقتلاع النظام وتحرير آلاف السجناء من أصل مئات آلاف، أعلن عن استشهادهم
من قبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وكثير من أهالي المعتقلين الذين فقدوا الأمل
بالعثور على أبنائهم. وبرز من بين المعتقلات والسجون سجن حلب المركزي وحماة، فضلا
عن السجون العسكرية كسجن صيدنايا والأفرع الأمنية، وعلى رأسها فرع
فلسطين، وهو
موضوع هذه المقالة.
سمّي فرع فلسطين بهذا الاسم في
العام 1969 مع بدء هيمنة حزب البعث على السلطة عسكريا في
سوريا، وسمي بذلك لأنه
المكان الذي كان يتعامل فيه نظام البعث الذي استولى على السلطة في سوريا في الستينيات، ثم أقصى جناحه السياسي وكل الأحزاب الأخرى واتجه للعسكرة والمخابرات؛ مخابراتيا
وأمنيا ليعاقب فيه نظام الأسد الأب الفلسطينيين ويعذبهم، ومن بينهم مقاومون
مطلوبون لإسرائيل ومعتقلون لأسباب سياسية، بينهم فلسطينيون من سوريا والأردن
ولبنان والداخل والضفة وغزة والقدس.
فرع فلسطين كان هو المكان الذي خصص لقمع أو للقضاء على أي حراك شعبي أو سياسي أو ثقافي وطني فلسطيني، يشكل حالة مستقلة عن النظام العربي ويهدد إسرائيل، أو يهدد نظام الأسد أمنيا.
فرع فلسطين إذن، كان هو المكان الذي خصص
لقمع أو للقضاء على أي حراك شعبي أو سياسي أو ثقافي وطني فلسطيني، يشكل حالة مستقلة
عن النظام العربي ويهدد إسرائيل، أو يهدد نظام الأسد أمنيا، ومن ثم فهو -أي فرع
فلسطين- القبضة الحديدية التي يحتوي من خلالها حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الحالة الفلسطينية، ويشتد الضغط الأمني وتزداد أعداد المعتقلين فيه كلما حاول
الفلسطينيون خوض تجربة نحو الانعتاق والتحرر. هذا كان دور الفرع وهو وأد حرية
الفلسطينيين، ولهذا سمي بهذا الاسم، وليس من العدل أن يطلق الاسم بهذه الصورة على
مكان يراد منه القضاء على هويتهم ووجودهم الاجتماعي والوطني والسياسي، أو أن يصير
اسم فلسطين اسما لمكان يمثل مسلخا بشريا، يقتل فيه السوريون والفلسطينيون وأنصار
القضية الفلسطينية تحت التعذيب، والفلسطينيون منه براء.
اسم فلسطين في هذا السياق، لم يكن
هدفه تخليد قضية فلسطين كما يعتقد كثيرون، أو أنه بسبب تبني النظام لقضية فلسطين
التي كانت تجارته الرابحة، وهي بطبيعة الحال بريئة منه وشعبها من أكبر ضحايا الأسد،
بل هو اسم أمني سياسي هدفه الإشارة السرية بين ضباط المخابرات لنوعية العمل في هذا
الفرع وتخصصه، وشيفرة لكل المنظومة المجرمة، بأن هذا هو المكان الرئيس الذي يرسل
إليه كل فلسطيني أو مناضل لأجل فلسطين وناشط في قضيتها، حتى لو كان سوريّا أو لبنانيا
أو أيّا يكن، يراد التخلص منه لأسباب سياسية.
ولاحقا، بات المكان مكانا لسحق
الجميع بمن فيهم المعارضون السوريون، لاحقا الثوار وشركاؤهم الفلسطينيون السوريون، بعد اتساع رقعة الثورة في العام 2011 وعدم اتساع السجون لقتل الجميع.
ويشار في هذا السياق، إلى أن كل الأدلة
والقرائن تشير إلى استعمال فرع فلسطين كفرع لتعذيب كل من يراد التخلص منه أمريكيا
بتهمة الإرهاب، ولا سيما الإسلاميين، منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ كانت وظيفة أنظمة
على رأسها السوري والمصري، تعذيب السجناء الذين ترغب واشنطن بالتخلص منهم أو رميهم
هناك، وكان لهذين النظامين دور وظيفي لدى المخابرات الدولية في ذلك، بل يرجح أنه سبب
من أسباب تمسك الأمريكي والنظام العالمي بعدم تغيير هذين النظامين.
وفلسطينيا، كان الفرع بمنزلة فرع
متقدم لسجون عوفر ورامون والمسكوبية وسيدي تيمان والرملة الإسرائيلية؛ لا يختلف
بهدفه عنها بل هو أقبح منها بكثير. بل إن الرابط الحقيقي والوحيد بين فلسطين التي
نعرفها وفرع فلسطين، هو دماء الشهداء هنا وهناك، فكم من شهيد فلسطيني وسوري وعربي
ارتقى تحت التعذيب في فرع فلسطين كان مدافعا عن قضية فلسطين؛ وكانت إسرائيل تريد
التخلص منه وناب عنها نظام الأسد في ذلك.
خُصص فرع فلسطين خلال حقبة الحرب
الأهلية في لبنان، وفقا لمصادر لبنانية، كمكان يُجمع فيه فلسطينيون من مخيمات لبنان
ولبنانيون يريد نظام الأسد التخلص منهم. كما استعمله النظام لتجميع وتعذيب معظم
كوادر وعناصر ومقاومي حركة فتح خلال فترة الانشقاق في العام 1983، حين كان يتم اتهامهم
بأنهم "عرفاتيون"، واستشهد كثيرون منهم في السجون.
وثق الفلسطينيون في سوريا منذ
اندلاع الثورة السورية استشهاد أكثر من 700 فلسطيني تحت التعذيب ونتيجة الظروف
السيئة في سجون الأسد، وفقا لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، كما وثق خطف
واعتقال وإخفاء آلاف آخرين منذ العام 2011، وهي أرقام ترتقي لشيء يشبه الإبادة
الجماعية الصامتة، إن قورنت بأعداد الفلسطينيين اللاجئين في سوريا، التي تقدر بحوالي
نصف مليون شخص، وفقا لوكالة غوثهم "أونروا"، مع الإشارة هنا إلى استشهاد
ما بين 4 و5 آلاف فلسطيني خلال الثورة، وتهجير أكثر من 150 ألفا خارج سوريا، وهم
الذين فروا كما إخوتهم السوريين خوفا من البطش الذي كان يمارسه نظام الأسد ضدهم،
كما دمر نظام الأسد بدعم روسي وإيراني معظم مخيماتهم، وعلى رأسها عاصمة شتاتهم
وتجمعهم في سوريا، مخيم اليرموك جنوب دمشق.
سجون الأسد وأفرعه الأمنية كلها بات من شبه المستحيل إيجاد سجناء فيها بعد اليوم، وقد أُعلن عن المفقودين كشهداء، فالحل الأفضل هدمها كليا وإزالة ملامح السجون عنها، وإقامة مزارات وحدائق وطنية مكانها وضروحا كبيرة يزورها الناس؛ كمقابر تشبه تلك المقابر الجماعية في البوسنة والهرسك، التي تعد نُصبا تذكارية لشهداء الإبادة.
في اللحظة الأولى التي يصبح فيها
الأمر متاحا، أي بعد تفريغ وترحيل كل ملفات وأرشيف وما تبقى في فرع فلسطين، لا بد
من مطالبة الحكومة السورية الجديدة ليس بتغيير اسمه فقط، بل بإزالته وإزالة ملامح
السجن عنه، وإقامة حديقة خضراء وضريحا للشهداء مكانه اسمها "حديقة شهداء
فلسطين"، كأكبر مقبرة جماعية ومزار لشهداء فلسطين، ولا بأس بوضع نصب تذكاري
فوق المكان؛ تكريما لشهدائه بأسماء من عُرف منهم فيه.
وبما أن سجون الأسد وأفرعه الأمنية
كلها بات من شبه المستحيل إيجاد سجناء فيها بعد اليوم، وقد أُعلن عن المفقودين
كشهداء، فالحل الأفضل هدمها كليا وإزالة ملامح السجون عنها، وإقامة مزارات وحدائق
وطنية مكانها وضروحا كبيرة يزورها الناس؛ كمقابر تشبه تلك المقابر الجماعية في
البوسنة والهرسك، التي تعد نُصبا تذكارية لشهداء الإبادة التي ارتكبها الجيش الصربي
ضد البوسنيين، تُزار كمقابر أو مزارات وطنية لتذكر بحقبة الإبادة وتشحن الوطنية
الحقيقة للشعبين السوري والفلسطيني، وليتم تصحيح السردية والاعتذار من اسم فلسطين
الذي دنّسه هؤلاء القتلة، وكذلك تخليدا واحتراما لعذابات الشهداء ودمائهم التي لم
ولن تجف في تلك البقعة، التي تباركها دماء الشهداء رغم بشاعة ما كان يرتكب فيها.
وكله لتذكر عذاباتهم وآلامهم دائما، فهذه ندبة لا تزول، ويجب أن تظل سردية دائمة
تدرّس في كتب التاريخ العربي والعالمي تخليدا لهم.
هذه البقعة رغم نجاسة ما كان يفعله
نظام الأسد فيها، لكنها طاهرة مطهرة بدماء الشهداء. هي لا تصلح لأي شيء آخر، فلا
إلغاؤها كسجون ومسالخ بشرية يمكن تجاهله، وليس كافيا، ولا عذابات من كانوا
يستشهدون تحت التعذيب فيها يمكن تجاهله، أو أنه يُسمح بإلغائها من الذاكرة الوطنية
للسوريين والفلسطينيين والعالم كله، بل هي مقابر شهدائنا وفيها رائحة مسكهم وخلايا
جلودهم وأجسادهم الطاهرة، التي سنبكي عليها ونفخر بها في آن معا، ونحن أَولى بهم
وبها، وهي ضروحهم الجماعية ونُصبهم التذكارية التي ستكون شعلة خلاصنا وحريتنا، التي
سنزورها في كل مناسبة تذكيرا بحقبة لن يُسمح بتكرارها على الإطلاق.