كتاب عربي 21

أحمد حلمي و"عسل إسود" ... فوق أي أرض وتحت أي سماء

طارق أوشن
1300x600
1300x600
أمام باب الفندق حيث كان يقيم، يشهر مصري سيد العربي جواز سفره الأمريكي في وجه كلب ينبح في اتجاهه. سكت كلب الحراسة وطأطأ رأسه أرضا.

مصري: ده طلع يفهم.

يأتي هذا بعد أنواع المعاناة التي كان مصري سيد العربي، بطل فيلم "عسل أسود" للمخرج خالد مرعي، ضحية لها حين قرر العودة إلى البلد بعد عشرين عاما من الغربة، مفضلا استعمال جوازه المصري رغبة منه في ألا يعامل كأجنبي ببلده.

بعد سنوات من إنتاج فيلم "عسل أسود"، لم تجد زوجة الصحفي باهر محمد، أحد المتهمين المسجونين وقتها على ذمة قضية خلية الماريوت، غير التصريح بعد ترحيل زميله الأسترالي بيتر جريستي وإخلاء سبيل زميله الثاني محمد فهمي لتوفره على الجنسية الكندية، قائلة: أسعى بجدية أن أحصل على جنسية أخرى طالما أنها السبيل الوحيد لإخراجه من السجن. أبحث عن جنسية أخرى له ولأبنائي لحماية حقوقهم مستقبلا.

وليتأكد الأمر لمن كان لا يزال بحاجة إلى تأكيد، لم تفرج السلطات المصرية على محمد سلطان، المضرب عن الطعام لشهور داخل سجونها، إلا بعد أن تخلى عن مصريته، وهو الحامل للجنسية الأمريكية. 

محمد سلطان كان عاد من الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في الحراك المصري الذي تلا الخامس والعشرين من شهر يناير في العام 2011، قبل أن تمر كثير من المياه تحت جسر "الثورة"، وينتهي به المطاف معتقلا ومحكوما على ذمة قضايا كبرى حوكم على إثرها بالمؤبد، وكان نصيب والده منها الإعدام.

كلب الحراسة فهم أسرع من السجانين أن الجواز الأمريكي حافظ للكرامة فوق أي أرض وتحت أي سماء.

في فيلم "عسل أسود"، وفي مشهد خارج السياق في البناء الدرامي، تتوقف الراقصة دينا بسيارتها لتوزع اللحم على الفقراء، وكان مصري سيد العربي واحدا منهم.

مصري: بس أنا مش غلبان

دينا: أنت مين؟

مصري: أنا مصري

دينا: تبقى غلبان

مصري: لا. أنا أمريكي.

دينا: وإيه ايللي مدهولك كده

مصري: كنت في مظاهرة ضد أمريكا

دينا: يعني أنت جاي من أمريكا علشان تشارك في مظاهرات.

هذا بالضبط ما لم تغفره السلطات المصرية لمحمد سلطان. ولولا جواز سفره الأمريكي لبقي يعاني ويلات السجون وانتقام السجانين منه ومن زملائه ومجايليه. 

ففي مصر وبقية الدول العربية لا يشفع لك أن تكون ابن البلد لتتمتع بـ"حقوقك المصرية" كما سماها مصري سيد العربي. للأجانب معاملة خاصة من السلطة كما الشعب. أما ابن البلد فلا يلقى من المعاملة غير النصب والإهانة والترويع. 

وكم كان بليغا ذاك المشهد الذي وجه فيه رجل الشرطة السؤال إلى مصري سيد العربي حين إصراره على إنصاف سائق السيارة "راضي" ضد أحد الآمنين صدم سيارته خطأ، فسمح له رجل الشرطي بالرحيل دون عقاب مع اعتذار.

رجل الشرطة: أنت مين؟

مصري: أنا مصري

رجل الشرطة: مصري وضابط، ولا مصري ووكيل نيابة؟

مصري: هو يعني لازم أكون مصري وحاجة؟

هذا هو الحال في دول العرب، حيث لا يكفي الانتماء البيولوجي للبلد حتى تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة. بل إن ازدواجية الجنسية صار السبيل الوحيد لنيل الحقوق الإنسانية التي تكفلها المواثيق والأعراف. 

ليس غريبا إذن أن نرى كيف يتهافت العرب على التسجيل بالملايين في القرعة السنوية التي تنظمها الولايات المتحدة الأمريكية كل سنة، ولا تهافت النسوة العربيات على أمريكا في الأسابيع الأخيرة لحملهم ووضع أجنتهن هناك، حيث يعودون معززين مكرمين وحاملين للجنسية الأمريكية سبيلهم الوحيد للانتماء إلى العالم "الحر". 

لكن الأغرب هو انتقال الرغبة في الانتماء إلى أي دولة غير عربية إلى البحث عن مواطنة بلدان ما كانت لتخطر على البال قبل سنوات قليلة من اليوم. 

في مصر مثلا تشير إحصائيات رسمية أن الآلاف يتقدمون بطلبات التجنيس المزدوج، بل منهم من يطالب بإسقاط الجنسية عنهم نظير الحصول على جنسيات بلدان غانا ومنغوليا وبروناي وباكستان وكوسوفو وتنزانيا وترينيداد توباجو، بل تعدى الأمر إلى دول لم يسمع بها قبل، كدولة سانت كريس ونيفيس، وهي دولة اتحادية من جزيرتين من جزر الهند الغربية.

كيف لا والجوازات العربية حلت في الرتب الأخيرة في مؤشر أقوى جوازات السفر الذي أصدره موقع تابع لمؤسسة أرتون كابيتال الذي يحتسب قوة الجواز بناء على عدم حاجته لتأشيرات دخول لمختلف دول المعمور.

داخل مقهى شعبية، يجلس الشيخ المسن "عم هلال". يصل مصري سيد العربي صحبه صديق طفولته ويجلسان برفقته.

عم هلال: ازايك يا مصري وازاي ابوك؟

مصري: دادي توفى، كان نفسه يجي  يعيش هنا آخر أيامه بس ملحقش. 

عم هلال: أنا باستغرب من الناس ده. الواحد منهم بيهاجر ويضيع عمره برة، وفي الآخر يقول أنا عايز أرجع بلدي علشان اندفن فيها، كأن البلد ده قرافة كبيرة..

البلد فعلا صارت "قرافة كبيرة" ليس فقط للعائدين إليها من كبار السن بل لشباب في مقتبل العمر، ذنبه الوحيد أنه جاهر برفض حكم عسكري انقلابي أجهض تجربة انتخابية شكلت تمرينا ديمقراطيا جنينيا كان ينتظر الرعاية فتم الإجهاز عليه. 

هكذا صار القتل على الهوية/ الانتماء للجماعة الإرهابية المحظورة طقسا يوميا تمارسه قوات الأمن المختلفة ومعها "المواطنون الشرفاء"، المصطفين جحافل طيعة وراء الزعيم الملهم، ولو اضطروا لحمل راياتهم/ عدة الشغل الوطنية، والسفر إلى برلين نقلا لصراعات الداخل لعرضها على الأشهاد بالخارج دونما خجل من الفضيحة، فهي آخر ما يهم القائمين على شرف الأمة ، فما هم إلا مغتصبون للسلطة والأرض والعرض.

مصري سيد العربي حامل لكل الشبهات. فلا المصري صار آمنا على نفسه، ولا العربي يملك إرادته رغم كل الرومانسية "الثورية" التي أوهموا الشعوب أنها بنتها في السنوات الأربع الأخيرة. أما السيد فلن يكون لا اليوم ولا في الغد القريب مصريا أو عربيا. 

وفي انتظار ذلك سيتواصل النزيف العربي جرحا غائرا لا يندمل حتى يدمي من جديد بنزيف أغزر وخسائر وآلام أفظع. 

في فيلم "عسل أسود" يرفض الممثل أحمد حلمي، في دور مصري سيد العربي، الجواز الأمريكي. لكنه انضم في الحياة الواقعية، مع زوجته الممثلة منى زكي، لطابور "سياحة الأمومة" وأنجب ابنه بإحدى المستشفيات الأمريكية، ضامنا بذلك للوليد جنسية وجواز سفر كفيلان بحفظ كرامته الإنسانية هنا وهناك وفي كل مكان.

على الجواز الأمريكي نقرأ: "حامل هذا الجواز تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية فوق أي أرض وتحت أي سماء"، وعلى البريطاني:" ستدافع المملكة المتحدة عن حامل هذا الجواز حتى آخر جندي على أراضيها"، وعلى الكندي:" نحرك أسطولنا من أجلك". أما في دولنا العربية فلا قيمة للجواز ولحامله داخل البلد قبل البلدان الأخرى. 

وفي مصر اليوم، يخير المعتقلون بين السجن أو التخلي عن الجنسية المحلية ليتمتع حامل الحواز الأجنبي من "منة" الترحيل خارجا بعيد عن الوطن الأم. 

بعد كل هذا يتساءل أصحاب القرار القابعين على أنفس البلاد والعباد عن أسباب التحاق الشباب والشيوخ بدولة "الخلافة" الوليدة، وهي التي تكتب على "جوازاتها" عبارة: حامل هذا الجواز تسير له الجيوش لو مسه ضرر. 

والمفارقة أن جواز "الخلافة" لا يصلح للسفر إلى أي مكان، بل إن امتلاكه "تهمة" ترمي بصاحبه في السجون في انتظار الجيوش التي يفترض أنها ستسير لأجله لو مسه ضرر.

بالورقة والقلم

خدتيني 100 قلم

أنا شفت فيك مرمطة وعرفت مين ايللي تظلم

ليه ايلي جايلك أجنبي

عارفة عليه تطبطبي

وتركبي وش الخشب وعلى اللي منك تقلبي...
التعليقات (1)
mh_ a200314@yahooo.com
الخميس، 04-06-2015 07:28 م
?فوض فوك .