لم يكن الربيع العربي كاشفا لحجم إجرام الأنظمة الاستبدادية العربية فقط؛ لأن هذا الطابع كان ملازما لطبيعة الاستبداد منذ نشأته الأولى ولم تزدنا الأيام به إلا علما، بل كشف الربيع ومجمل الثورات المرتبطة به حجم النفاق الدولي في التعامل مع القضايا العربية، ومع رغبة شعوب المنطقة في الكرامة والحرية.
المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وشبكات الإغاثة العالمية ومجمل الفروع المرتبطة بجهاز الأمم المتحدة، وكل الهياكل التي أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية، إنما تعتبر أذرعا للنظام العالمي الجديد يتمثل دورها في إضفاء مسحة من الإنسانية على الأطماع الاستعمارية والنوايا التوسعية للمنتصرين من الحرب الثانية.
منظمة العفو الدولية التي أنشأت سنة 1961 تندرج ضمن إطار المنظمات المعولمة للنظام العالمي الجديد، الذي صيغ إثر الحرب العالمية الثانية وكرّس سلطة المعسكر الرأسمالي والدول المنتصرة، وقد انفردت هذه المنظمة بالتقارير النقدية السنوية لوضع حقوق الإنسان في العالم. هذا الشعار البرّاق لم يكن ليخفي أنّ المنظمة لا تخرج في الحقيقة عن الخطوط الكبرى التي رسمها "العالم المتحضر" لنظام القيم العالمي، بما فيه النظام العربي رغم سعيها إلى تفعيل الشعارات التي تنادي بها منذ نشأتها.
لكن اليوم ومع اشتداد التهديدات العالمية والدولية لمصير الملايين من المواطنين العرب والمسلمين في كامل المنطقة العربية في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين... لا يتميز صوت المنظمة ولا يرتفع عن الأصوات الناعقة بفزاعة الإرهاب إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. تقارير المنظمة عن الوضع الفلسطيني وعن جرائم عصابات المستوطنين الصهاينة لا تكاد تُذكر، مقارنة بالتقارير التي تقدمها المنظمة وتستعملها الحكومات المرتبطة بها كوسيلة ضغط رمزية ومعنوية، من أجل إلحاق الضرر بصورة الدولة عند الرأي العام العالمي بما فيه الرأي العام العربي.
أما اليوم ففي الوقت الذي تُرتكب فيه أبشع الجرائم في العصر الحديث ضد الشعب السوري وضد المدنيين العزّل بشكل موثق صوتا وصورة، تقف المنظمات الدولية صامتة أمام أول حرب يقودها نظام دموي ضد شعبه، ويستعمل فيها الأسلحة المحرمة دوليا بما فيها القنابل العنقودية والقنابل الفراغية، والأسلحة الكيميائية من غازات وقنابل حارقة وتسانده فيها قوى إمبراطورية بحجم روسيا القيصرية الجديدة. التدخل الروسي في سوريا لم يكن تطبيقا لمبدأ " التدخل الإنساني " الذي نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة أو مبدأ " مسؤولية الحماية "، الذي يُلزم المجتمع الدولي بحماية المدنيين في حالات الحرب والكوارث الطبيعية، بل كان غزوا استعماريا علنيا تحت ذريعة مكافحة " الإرهاب الإسلامي" طبعا. هذا الخرق الواضح والصريح للقانون الدولي وتطوره إلى حرب إبادة حقيقية ضد المدنيين، لم يستفز المنظمات الدولية بما فيها منظمة العفو الدولية، ولم تر فيه انتهاكا مروعا لحقوق الإنسان. هذا العجز والمشاركة في الجريمة الدولية ضد الشعب السوري من المدنيين والأبرياء بالصمت المطبق، هو الذي يمنع عن تقارير المنظمة صفة الموضوعية والحياد، ويجعلها أداة طيّعة في يد القوى الدولية تستعملها متى شاءت من أجل تنفيذ مهام استعمارية بغطاء إنساني.
المنظمة خصّت في تقريرها السنوي الأخير دولة قطر بالنقد، وخصت أوضاع قطاع العمالة الأجنبية الوافدة بالتقييم لتخلص إلى أحكام، منها أن واقع العمال في قطر "هو واقعٌ مروّعٌ لعشرات الآلاف من النساء والرجال الذين يتعرضون للإساءة في قطر،" وقد ربطت التقارير بشكل لافت كل الأحكام القاسية والمغلوطة بموعد تاريخي لدولة قطر، وهو احتضان كأس العالم لسنة 2022 لأول مرّة في بلد عربي. هذا الربط اللافت لا يُخفي قبل كل شيء الحملة المنظمة على هذه الدولة الخليجية النوعية حول ملف كأس العالم، التي بدأت منذ فوز البلد بشرف تنظيم الموعد الكروي العالمي لأسباب سياسية لا علاقة لها بالرياضة، ولا بحقوق العمال ولا بحقوق الإنسان، ولا بالقيم الكونية التي يدّعي أصحاب المنظمة الدفاع عنها.
تشويه صورة قطر والسعي لمحاسبتها على دعم ثورات الربيع العربي وعلى رفضها دعم الانقلابات الدموية التي ضربت المنطقة بعد ثورات الربيع السلمية، هو في نظرنا أهم الأسباب التي تفسر سبب الحملات التي لا تنتهي ضدّ أول دولة وظيفيّة عربية في التاريخ الحديث. تقرير المنظمة لا يخلو من المغالطات الكثيرة التي تفضح توجهه أداة لخدمة أغراض غير إنسانية ولا حقوقية، بل هي أهداف سياسية لا تخفى؛ فالتقرير لم يشر إطلاقا لحجم الإنجازات التي أنجزتها الدولة في إطار تحسين وضع العمال المهاجرين، رغم بعض النقائص التي تصاحب ظروف العمال الأجانب حتى هنا في أوروبا.
فالتقرير لم يشر مثلا إلى أنّ كل العمال الوافدين يتلقون أجورهم بشكل إلكتروني عبر التحويل المصرفي في غضون سبعة أيام من تاريخ استحقاقها، كما منعت قطر الشركات من الاحتفاظ بجوازات العمال الأجانب، وضاعفت سكن العمال بنسبة خمسين في المائة مؤخرا، كما سهلت اللجوء إلى القضاء في حال التعرض للتمييز أو الاستغلال من المشغلين. كل هاته الإجراءات التي لا يتمتع بها العمال الوافدون الأجانب في دول أخرى من العالم وفي دول الخليج العربي نفسه، لم تعرها المنظمة اهتماما وقفزت عليها قفزا، مما يكشف حجم التوظيف السياسي والإعلامي للقضية التي يعاني منها كل العمال الأجانب في كل بقاع الأرض بل حتى في قلب أوروبا نفسها، حيث لا يتمتع العامل المهاجر سرا بالعناية الصحية ولا بالخدمات الاجتماعية ويتعرض لأبشع أنواع الاستغلال والاستعباد.
شاهد آخر على زيف تقارير المنظمة من تونس حيث عاد التعذيب بشكل منهجي في مختلف زنازين "بن علي "، وحيث تخترق حالة الطوارئ المفروضة على الشعب حقوق المواطن وتسمح بتوسيع القبضة الأمنية، فلا تهتم تقارير منظمة العفو الدولية الصادرة في 9 تشرين الثاني نوفمبر 2015 إلا بحالة طالب تونسي مهدد بالسجن بسبب أنشطة شذوذ جنسي. هذا الموقف من وضع الحريات في تونس يكشف انعدام الموضوعية وغلبة الطابع الانتقائي في دراسة الحالات الإنسانية ونقد الوقائع، بما يخدم مصالح تقع في درجة أعلى من مستوى المنظمة الدولية نفسها، وهي درجة تفضح طبيعة المنظمات الدولية على اختلاف أنواعها، وانحيازها إلى صف القوى الدولية المهيمنة ومخططاتها التوسعية على الأرض العربية، عبر شيطنة النماذج التنموية النوعية ودق أسافين التفرقة، والشك بين المشاريع الوطنية والفئات العريضة المستهدفة بها.