لماذا لم يطرقوا جدارن الخزان؟ كما تساءل بالأمس "أبو الخيزران" في رواية "رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني، لماذا لم يطرق "أبو قيس" و"مروان" و"أسعد" جدران خزان الشاحنة التي اختبؤوا فيها هاربين من جحيم الاحتلال واللجوء وفضلوا الموت اختناقا؟
كان ذلك من أكثر الأسئلة والجمل إثارة للجدل واحتمالات التأويل في الرواية العربية... لكنه لم يعد الآن ممكنا، فعدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال طرقوا جدران الخزان وعلقوا الجرس وأناروا الضوء الأحمر، فثمة مجزرة وجرائم ضد الإنسانية يرتكبها الاحتلال في سجونه.
وتفتح قضية الصحافي الأسير
محمد القيق جدران شاحنة "أبو الخيزران" وتسلط الضوء على
الاعتقال الإداري الذي تستخدمه سلطات الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين.
وكانت تصدر أوامر الاعتقالات الإدارية بموجب أنظمة الدفاع لحالة الطوارئ التي أقرها الانتداب البريطاني عام 1945، وبعد ذلك شرّع الاحتلال أمرا خاصا بالاعتقالات الإدارية جرت عليه عدة تعديلات كان آخرها عام 2007.
والاعتقال الإداري إجراء تلجأ إليه قوات الاحتلال الإسرائيلي لاعتقال المدنيين الفلسطينيين دون تهمة محددة ودون محاكمة، وتستخدم قوات الاحتلال هذا الإجراء بناء على أمر تعليمات الأمن رقم 1651 الذي يمنح قائد المنطقة العسكرية الحق في احتجاز شخص أو أشخاص لمدة تصل إلى ستة أشهر.
ويحرم الإجراء المعتقل ومحاميه من معرفة أسباب الاعتقال، مما يحول دون بلورة دفاع فعال ومؤثر، الأمر الذي يؤدي غالبا إلى تجديد أمر الاعتقال الإداري بحق المعتقل لمرات متتالية.
ويمارس الاحتلال سياسة الاعتقال الإداري الذي استنسخه من الانتداب البريطاني، منذ احتلال الضفة الغربية وغزة عام 1967.
وسُجلت إلى عام 2014 أكثر من 50 ألف حالة اعتقال إداري، من بين نحو 805 آلاف حالة اعتقال، حسب معطيات وزارة شؤون الأسرى.
وبينما يغيب تعريف الاعتقال الإداري عن القوانين والأوامر العسكرية، يعرفه مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة والمعروف اختصارا باسم "بتسيلم" بأنه "اعتقال يستند إلى أمر إداري فقط، دون حسم قضائي، وبدون لائحة اتهام وبدون محاكمة".
ومع إمعان قوات الاحتلال في اعتقال المزيد من الفلسطينيين إداريا، اضطر الأسرى للقيام بخطوات نضالية عدة منها مقاطعة المحاكم العسكرية الإسرائيلية، والإضراب عن الطعام.
ومن بينهم كان محمد القيق، صحفي فلسطيني، ومراسل قناة "المجد" الفضائية، الذي يخوض إضربا عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ تشرين الثاني\ نوفمبر الماضي.
والقيق صحافي وناشط، سبق له ترؤس مجلس طلبة جامعة "بيرزيت" في دورة عام 2006-2007، وكان نشطا في الكتلة الإسلامية، إضافة إلى كونه كاتبا لمقالات رأي في عدد من المواقع المحلية والعربية والتي تعبر عن روح المقاومة الفلسطينية واستمرار انتفاضة القدس.
اعتقل عدة مرات على يد أجهزة
السلطة الفلسطينية الأمنية بالضفة. ومنها اعتقاله لدى قمعها للاعتصام أمام مسجد البيرة الكبير برام الله في عام 2013، واستدعى "جهاز الأمن الوقائي" التابع للسلطة الفلسطينية القيق عدة مرات، إحداها بعد اعتداء عناصر من "الشرطة الخاصة" عليه عقب مشاركته في مسيرة "نصرة الشرعية المصرية" في آب/ أغسطس عام 2013 .
واختطف لأشهر لدى أجهزة " الوقائي" و"المخابرات" و"أمن الرئاسة" الفلسطينية في أعوام 2006 و2008 و2009.
ومنها أيضا حين داهم عناصر من "الأمن الوقائي" في كانون ثاني/ يناير عام 2014 منزله في مدينة رام الله.
القيق أسير محرر أمضى أكثر من ثلاثة أعوام في ثلاثة اعتقالات في السجون الإسرائيلية منذ عام 2008 كان آخرها عام 2015 حين اعتقل من بيته في مدينة رام الله في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بعد أن داهمته قوة من
جيش الاحتلال، وتم نقله إلى مستوطنة "بيت إيل" القريبة من رام الله، وترك بعدها في العراء حوالي 20 ساعة، ثم نقل لمركز تحقيق "المسكوبية" وبعدها إلى مركز تحقيق "الجلمة".
وقالت زوجته الصحفية، فيحاء شلش، إن قوات كبيرة من جنود الاحتلال حاصرت البناية السكنية التي يقطن بها، واقتحمت منزله بعد تفجير الباب وتحطيم زجاج النوافذ الموجودة فيه، ثم شرعوا بالانتشار في المنزل وتفتيش غرفه بشكل سطحي قبل أن يعتقلوا القيق ويصادروا هاتفه النقال وهاتف زوجته وحاسوبا شخصيا، ثم اقتادوه إلى جهة مجهولة.
وبدأ القيق بالإضراب المفتوح عن الطعام بعد أيام من اعتقاله، احتجاجا على سوء معاملته أثناء التحقيق ولتحويله إلى الاعتقال الإداري. القيق يعاني الآن أوضاعا صحية صعبة، لاسيما بعد تغذيته قسريا، وأصبح يفقد الوعي عدة مرات، وفاقدا القدرة على النطق والسمع والنظر، وهو مكبل على السرير في مستشفى العفولة الإسرائيلي بعدما نقل إليه إثر تدهور حالته الصحية.
ويرفض القيق منذ بدء إضرابه تناول المدعمات وإجراء الفحوص الطبية، فيما تشير آخر التقارير إلى أن القيق فقد وعيه، وأن وضعه الصحي وصل إلى حالة حرجة جدا، وحذرت مؤسسات حقوقية عدة، وكذلك عائلته، من إمكانية استشهاده في ظل تعنت الاحتلال في الاستجابة لمطالبه.
القيق واحد في مسيرة الشعب العربي الفلسطيني، وهو واحد من نحو مليون فلسطيني اعتقلوا منذ عام 1967، وواحد من بين نحو 4 آلاف معتقل فلسطيني منذ انتفاضة القدس، لكنه لم يأخذ حكاية "رجال تحت الشمس" على محمل الجد، فطرق باب الخزان حتى تكتب الحكاية لمن يأتي بعده.