ماتزال حادثة تفجير
فندق الملك داود (في القدس) من أكثر الحوادث المتنازع عليها بمرارة – وينبغي على
الأمير ويليام إحياء ذكرى ضحايا الانفجار عندما يحل في المكان
ويبقى واحداً من أكبر
الهجمات الإرهابية على القوات البريطانية على الإطلاق. في صباح الإثنين الثاني
والعشرين من يوليو / تموز 1946، قام متشددون يهود ينتحلون شخصيات نادلين بزرع
قنبلة ضخمة في سرداب فندق الملك داود في القدس الغربية.
نجم الانفجار عن
انهيار معظم الجناح الجنوبي من الفندق الذي كان المسؤولون البريطانيون وضباط الجيش
البريطاني يتخذون منه مقراً لإدارة الانتداب البريطاني على فلسطين.
قتل بسبب الانفجار
اثنان وتسعون شخصاً، بما في ذلك أحد الإرهابيين. كان واحد وأربعون من الضحايا
عرباً، وسبعة عشر من اليهود وبضعة منهم كانوا من الزوار الأجانب. أما عدد القتلى
من البريطانيين فكان ثمانية وعشرين، وكان من بينهم أحد عشر مسؤولاً حكومياً
وشرطيان وثلاثة عشر جندياً.
يصل يوم الأثنين
القادم في زيارة إلى المدينة الأمير ويليام، الثاني في الترتيب على ولاية العرش
البريطاني، وترافقه في رحلته دوقة كامبريدج، حيث سيمضيان ثلاث ليال في فندق الملك
داود كجزء من جولة تشمل الأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبذلك ينضم الزوجان
إلى العشرات من كبار الزوار والشخصيات المعتبرة من الأجانب الذين نزلوا من قبل في
نفس الفندق عبر العقود الماضية، وكان من بين هؤلاء عدد من رؤساء الولايات المتحدة،
بما في ذلك دونالد ترامب، ورؤساء وزراء بريطانيون، بما في ذلك وينستون تشيرشيل
ومارغريت ثاتشر وطوني بلير، ومشاهير مثل مادونا وريتشارد بيرتون وإليزابيث تيلر.
خدمة للملك والوطن
إلا أن الأمير ويليام
ينتمي إلى فئة نادرة تختلف عن كل هؤلاء، وذلك أن الجنود والمسؤولين الذين قضوا
نحبهم في الهجوم قبل اثنين وسبعين عاماً كانوا في "خدمة الملك والوطن"،
إذا ما أردنا استخدام عبارة قديمة نوعاً ما وإن كانت ماتزال معبرة جداً عن الحال.
لقد مات هؤلاء حينما كان الملك جورج السادس، أي الجد الأكبر للأمير ويليام، يجلس
على العرش.
كان كثيرون منهم
شباباً، ولابد أنهم جاءوا إلى فلسطين بعد أن قضوا خمسة أعوام وهم يقاتلون ضد
الفاشية النازية.
واليوم، تكاد تضحياتهم
تضحى طي النسيان رغم أن ما يقرب من ثمانمائة جندي بريطاني ماتوا أثناء حملة الشغب
والعصيان التي شنها اليهود ضد الحكم البريطاني في فلسطين في عهد الانتداب ما بين
عامي 1945 و 1948، بالإضافة إلى ما يزيد عن مائة من أفراد الشرطة البريطانية لقوا
حتفهم خلال نفس الفترة. بعض هؤلاء ماتوا بسبب المرض أو في حوادث، ولكن الكثيرين
منهم لقوا مصرعهم على أيدي الجماعات المتشددة.
مما يثبت أن هؤلاء
الرجال الشجعان باتوا منسيين أن أعدادهم ملتبسة جداً، والتقديرات في ذلك تعود إلى
جهود تنسب إلى متطوعين مستقلين.
خلال عملية
"أغاثا" – التي جاء هجوم فندق الملك داود رداً عليها، قتل البريطانيون
العشرات من المحاربين والمدنيين اليهود، وألقوا القبض على ما يقرب من ألفين
وسبعمائة يهودي وصادروا كميات من الأسلحة والوثائق.
كما قتل المتشددون
العرب أعداداً من اليهود، وقتلوا خلال الثورة العربية من عام 1936 إلى عام 1939
عدة مئات من البريطانيين، فما كان من البريطانيين إلا أن انتقموا من العرب فقتلوا
الآلاف منهم.
ولكن ذلك لا يعني أن
علينا أن ننسى العنف الذي مارسته الجماعات الإرهابية اليهودية بما في ذلك الإرغون
وعصابة شتيرن والهاغاناه.
قام عناصر من الإرغون
مرتين بتفجير نوادي للضباط البريطانيين في القدس مما نجم عنه مقتل سبعة وثلاثين
عسكرياً. وهاجموا مراكز الشرطة وشبكات السكة الحديد. وفي عام 1948، قتلوا ثمانية
وعشرين جندياً على متن قطار إلى الشمال من مدينة ريهوفوت.
أما "ليهي"،
والتي تعرف أيضاً باسم "عصابة شتيرن"، فقد صدمت العالم في القاهرة في
نوفمبر / تشرين الثاني من عام 1944 حينما اغتالت اللورد موين، الوزير البريطاني
لشؤون الشرق الأوسط.
في مقابلة أجريت معه
في عام 2012، قال رئيس الوزراء السابق إسحق شامير إن عملية القتل كانت بسبب أن
"اللورد موين كان أكبر مسؤول بريطاني في الشرق الأوسط ... ولأننا قاتلنا ضد
البريطانيين في تلك المنطقة فقد اتخذناه هدفاً. ذلك كان السبب الرئيسي من وراء
اغتياله."
سابقة التذكر
إن أكبر سؤال سيواجه
الأمير ويليام وهو يقوم بأول زيارة ملكية رسمية له إلى إسرائيل وفلسطين هو كيف
سيتذكر التضحيات التي بذلها أولئك الذين قدموا دماءهم وأرواحهم خدمة للملك جورج
السادس في حقول القتل داخل فلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني.
في الظروف الاعتيادية،
يقوم أعضاء العائلة الملكية البريطانية في العادة بالإشادة بالجنود البريطانيين
الذين قدموا أرواحهم في الحرب. ولقد أخبرتني هيئة الكومونويلث لقبور الحرب بأن
أفراد العائلة الملكية ربما قاموا بالمئات من الزيارات إلى تلك القبور عبر السنوات
الماضية.
كما تعترف العائلة
الملكية بضحايا الفظائع البريطانية. ففي عام 2011 أشادت الملكة إليزابيث بأولئك
الذين قتلوا وجرحوا على أيدي قوات الأمن البريطانية في ستاد كروك بارك بمدينة دبلن
سنة 1920.
وفي عام 1997 زارت
الملكة إليزابيث برفقة الأمير فيليب مدينة أمريستار الهندية لوضع إكليل من الزهور
على النصب الذي أقيم تخليداً لذكرى المئات من الهنود غير المسلحين الذين قتلوا في
عام 1919 بعد أن صدرت الأوامر للقوات البريطانية بفتح النار عليهم.
فهل سيتذكر الأمير
ويليام خلال زيارته هذه الجنود البريطانيين الذين قتلوا في عهد الانتداب البريطاني
على فلسطين؟
ليس واضحاً بعد، وهذا
هو المدهش في الأمر.
ورد في البرنامج
الرسمي الطويل للزيارة، والذي تم نشره قبيل البدء برحلته، بأنه سيقيم في فندق
الملك داود، ولكن لم يرد أي ذكر للجريمة البشعة التي ارتكبت هناك.
ويذكر برنامج الزيارة
بأن دوق ودوقة كامبريدج سوف يزوران قبر الأميرة أليس أوف باتنبيرغ، والدة الأمير
فيليب (والجدة الكبرى للأمير ويليام)، والتي دفنت في كنيسة مريم المجدلية على جبل
الزيتون في القدس الشرقية.
ولكن لم يأت البرنامج
على ذكر شيء عن أي زيارة للمقابر التي دفن فيها الجنود البريطانيون الذين ماتوا في
الحرب.
وتبقى المرارة عالقة
من السهل جداً إدراك
لماذا لم يأت البرنامج على ذكر شيء من ذلك. فمازال حادث تفجير فندق الملك داود محل
نزاع وخلاف مرير، حتى داخل إسرائيل.
يتذكره البريطانيون
كعمل إرهابي، ولكنه بالنسبة لكثير من الإسرائيليين جزء لا يتجزأ من حرب التحرير
التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل في عام 1948.
طفت التوترات المتعلقة
بهذا الموضوع على السطح في عام 2006 عندما نظم مركز مناحيم بيغن للتراث مناسبة
لتخليد ذكرى التفجير وللاحتفاء به. ومناحيم بيغن الذي سمي المركز باسمه كان الزعيم
السابق للإرغون الذي صدرت منه الموافقة على تفجير فندق الملك داود وما لبث بعد ذلك
أن أصبح رئيساً لوزراء إسرائيل.
في تلك المناسبة، شاهد
أعضاء سابقون في الإرغون، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنجامين
نتنياهو، كشف الستار عن لوحة علقت داخل فندق الملك داود كتب عليها:
"كان الفندق
مقراً لأمانة الانتداب وكذلك مقراً لقيادة الجيش البريطاني. وفي الثاني والعشرين
من يوليو / تموز من عام 1946، قام مقاتلو الإرغون، وبتوجيه من حركة المقاومة
العبرية، بزرع متفجرات في سرداب الفندق. وكانت قد أجريت مكالمات هاتفية لتحذير
المقيمين داخل الفندق وحثهم على إخلائه فوراً. ولأسباب لا يعلمها إلا البريطانيون
لم يقع إخلاء الفندق، وبعد خمسة وعشرين دقيقة انفجرت القنابل، وقد أعربت الإرغون
عن أسفها وشعورها بالاستياء لمقتل واحد وتسعين شخصاً في الحادث."
اشتاط لذلك غضباً كل
من سايمون مكدونالد، السفير البريطاني في تل أبيب آنذاك، وجون جينكنز، القنصل
العام في القدس، وطالبا بإزالة اللوحة، قائلين لعمدة القدس إننا "لا نظن أنه
من الصواب الإشادة بعمل إرهابي أدى إلى إزهاق الكثير من الأرواح."
وقالا أيضاً إنه لا
يوجد دليل ذو مصداقية على أن تحذيراً قد وصل السلطات البريطانية، وأنه حتى لو حصل
ذلك، فإنه "لا يعفي من زرعوا القنبلة من المسؤولية ولا يبرئهم." وقد حظي
هذا النقد في لندن بتأييد نواب البرلمان البريطاني من كافة الأحزاب.
وكما بينت صحيفة
الجيروزاليم بوست في حينه: "من أجل تجنب واقعة دبلوماسية، ونزولاً عند اعتراض
تقدم به النائب في الكينسيت عن حزب الليكود روفين ريفلين، الذي أثار القضية داخل
الكنيسيت، تم تعديل النص المكتوب على اللوحة، وخاصة في نسخته باللغة الإنجليزية،
فبات النص باللغة الإنجليزية كالتالي:
"تم توجيه مكالمات
هاتفية إلى مقسم الفندق، وإلى صحيفة بالاستاين بوست وإلى القنصلية الفرنسية، جرى
من خلالها حث نزلاء الفندق على المغادرة مباشرة. إلا أن الفندق لم يقع إخلاؤه،
وبعد خمسة وعشرين دقيقة انفجرت القنابل. دمر الجناح الغربي بأسره وأعربت الإرغون
عن أسفها لمقتل اثنين وتسعين شخصاً."
كما أعلن عن أن
الضحايا الاثنين والتسعين كان منهم أفراهام أبراموفيتس، مقاتل الإرغون الذي قتل
داخل الفندق، إلا أن ذلك لم يرد ذكره إلا في النسخة العبرية مما هو مكتوب في
اللوحة.
ونشرت صحيفة جيروزاليم
بوست تعليقاً من مقاتل سابق في الإرغون قال فيه: "لا يهمني ما هو مكتوب في
النسخة الإنجليزية، كل ما يهمني هو النسخة العبرية، لأن تلك هي لغتنا، والعبرية
تنطق بالحق."
غياب اللوحة التذكارية
عندما زرت فندق الملك
داود في الأسبوع الماضي، استفسرت عما إذا كانت اللوحة التذكارية ماتزال موجودة على
جدران الفندق، فأخبرني مسؤولو الفندق إنه لا يوجد شيء من ذلك.
أقمت في غرفة مريحة في
الجناح الجنوبي الغربي من الفندق، والذي قدرت بأنه كان قريباً من موقع الانفجار.
ثم أخبرني أحد العاملين في الفندق بأن "انفجاراً كان قد وقع أثناء حرب
التحرير" في الجزء الجنوبي من الفندق.
ولكن عندما تجولت
متفقداً الفندق لم أجد ما يشير إلى مكان اللوحة التذكارية، ولكني وجدت على جدرانه
صوراً لمشاهد من فلسطين أثناء فترة الحكم البريطاني، وكانت إحدى الصور لمشهد
الجناح الجنوبي من الفندق التقطت بعد حادثة التفجير مباشرة.
في مقابلة مع موقع
ميدل إيست آي في عام 2017 قال جيريمي شيلدون، مدير شؤون النزلاء في فندق الملك
داود، إنهم لم يسعوا إلى إخفاء تاريخ حادثة التفجير ولكنهم في نفس الوقت لم يتعمدوا
إبرازها والتحدث عنها. وأضاف: "توجد صور لحادثة التفجير معلقة على جدار
الأحداث التاريخية في ردهة الطابق السفلي من الفندق، كما تنتشر في أرجاء الفندق
صور تاريخية منوعة."
هل سيقوم الأمير
ويليام بوضع إكليل من الزهور على موقع التفجير الذي أودى بحياة كثير من
البريطانيين وبحياة غيرهم من مواطني الدول الأخرى؟ وهل سيزور قبور الحرب التي تؤوي
جثامين أولئك الذين قضوا نحبهم خلال تلك الفترة؟
توجهت إلى المقبرة
البروتستانتية في جبل صهيون، حيث يرقد عدد كم ضحايا حادثة تفجير فندق الملك داود،
فوجدت أن القبول بشكل عام لا تحظى بالعناية، بل بعضها أصبح خرباً تماماً.
بحثت في المكان عن قبر
العميد بيتر سميث دورين، أعلى المسؤولين رتبة من بين ضحايا التفجير فلم أجده. (ورد
في إحدى قوائم بيانات القبور أن قبره غير معلم أو لا يوجد عليه شاهد.)
تلوت صلاة على أرواح
أولئك الذين ماتوا قبل زمن طويل في سبيل وطنهم. وأعتقد أنه يتوجب على الأمير
ويليام زيارة المقبرة وعمل نفس الشيء.
بعد عودتي إلى لندن،
اتصلت بقصر كينسنغتون، وهو مقر الإقامة الرسمي للأمير ويليام، لأستفسر إن كان
سيتذكر أولئك الموتى. لكن المسؤولين هناك رفضوا تأكيد أو نفي ذلك، وكل ما فعلوه
ببساطة هو أنهم أحالوني تارة أخرى إلى برنامج الزيارة.
ما ينبغي أبداً نسيان
الدين الذين للموتى علينا
على الأمير ويليام أن
يدرك أن إخفاقه أثناء هذه الزيارة في تذكر تضحيات الأفراد البريطانيين والإشادة
بفضلهم سيكون بمثابة تفريط مريع وإهمال كبير في القيام بواجباته.
لعله في المستقبل يصبح
ملكاً، والأغلب أن جنوداً من الشباب البريطاني سينطلقون لشن حرب تحت رايته، تماماً
كما أن ضحايا تفجير فندق الملك داود ماتوا وهم يقاتلون تحت راية جده الأكبر.
لقد قيل لجنود جورج
السادس إنهم كانوا في مهمة للحفاظ على السلام وإعطاء الفرصة لإنجاز حل عادل لمنطقة
متنازع عليها. لا هم ولا حكومتهم كانوا يرغبون في البقاء في فلسطين. كانوا وحدهم
في العالم، بلا دعم دولي، يسعون للقيام بمهمة مستحيلة.
تقدر بريطانيا
علاقاتها بإسرائيل، وهي عازمة ما بعد بريكسيت (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، وأكثر
من أي وقت مضى، على بناء علاقاتها التجارية مع حليفنا في الشرق الأوسط.
ولكن من المؤكد أن ذلك
لا يعني نسيان الدين المستحق علينا وغير المدفوع بعد للتعبير عن الامتنان والفضل
لأولئك الذين ماتوا في سبيل وطنهم في صراعات باتت الآن تقريباً طي النسيان.
ميدل إيست آي
غوانتانامو: علامة باقية على الهمجية التي مورست ضد المسلمين الأبرياء