1- الغنوشي ومنطق الدولة
لا يمكن فهم كيفية إدارة حركة النهضة لمفاوضاتها مع الشركاء السياسيين، دون فهم ما يدور داخلها من "تدافع" في علاقة بالتسيير وبالمؤتمر القادم.
ولا يُمكن فهم تمسك الأستاذ راشد بـ"المقود" و"لوحة القيادة" دون تقدير للضغوطات الداخلية والخارجية المسلطة على الحركة وعليه هو مباشرة، باعتباره رئيسها وصانع "هويتها".
الأستاذ راشد الغنوشي الذي قال كثيرون إنه "أكبر" من المناصب والكراسي، وأنه يشتغل على المعاني والأفكار، وأنه رمز عربي وإسلامي؛ ما الذي يجعله "حريصا" على إحدى الرئاستين: رئاسة الحكومة أو رئاسة البرلمان؟
أو ما الذي يجعله يقود المفاوضات مع مختلف الأطراف بنفسه؟ وما الذي يجعله يُغيّر قرار الشورى من "رئيس حكومة نهضوي" إلى "رئيس برلمان نهضوي"؟ ورئيس جكومة بتعيين نهضوي، أي (بالضرورة) من خارج قادة النهضة أو من الأسماء الحزامية؟
ترجيح مجلس شورى النهضة في دورته 33 كفة السيد الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة على حساب أسماء أخرى له كفاءتها ورمزيتها النهضوية الواضحة، كان ضمن هذا التمشي، أو ما عُبِّر عنه بـ"شخصية نهضوية مخففة". فالسيد الحبيب الجملي مشهود له بالكفاءة والنظافة ولا يُعرف بكونه من قادة النهضة، ولكنه أيضا ليس من خصومها ولا يُنتظر منه "إفلاتا" من "توصياتها"، كما فعل رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد مع رئيس حزبه الباجي قائد السبسي رحمه الله.
الأستاذ راشد الغنوشي ظل منذ المؤتمر العاشر يشتغل تحت الضغط العالي، لا ضغط الخصوم بل ضغط رفاق الطريق. ولكل رؤيته ومبرراته، ولكن ربما كان الجميع بحاجة إلى "كشف الألغاز".. نعم ثمة "ألغاز" يحتاج كل "طرف" كشفها أو انكشافها حتى يكون العمل جماعيا وفي أجواء من المودة والوضوح والطمأنينة.
هل الأستاذ راشد مطمئن داخل الحركة؟ هل يمكن أن يطمئن إذا ما سلم "محصول" الانتخابات لرموز الحركة يتولون رئاسة الحكومة والبرلمان والوزارات؟ الجواب ودون تردد: لا.
لا يضمن الأستاذ راشد أن يظل "مرجع نظر" حكومة يُديرها أغلب أجهزتها "أبناؤه" و"رفاقه"، وثمة أكثر من سبب (نعلمه) لعدم الاطمئنان.
ماذا لو كان الغنوشي متأكدا من كونه (وبالانتخاب أو بالتنقيح) سيكون هو رئيس الحركة بعد المؤتمر الـ11؟ هل كان سيفكر في رئاسة حكومة أو رئاسة برلمان؟
سيتأول البعض بأن الأستاذ راشد يريد تحقيق تطبيع الإسلام السياسي مع الدولة من خلال رمزيته هو كزعيم إسلامي كبير، وقد يتأول آخرون بأن الأستاذ راشد يستبق مغادرته قيادة الحركة باعتراض وزرائها في رئاسة البرلمان، حيث تستمر سلطته على الحركة من خلال حضوره كسلطة تشريعية، ولسنا نقول بحديث "الحصانة" يروجه البعض فذاك من حشو الكلام.
2- معركة "الأيديولوجيا" و"الدولة"
نتائج الانتخابات التشريعية انعكست على توزيع المهام في البرلمان، حيث كانت الرئاسة للأستاذ راشد الغنوشي باعتباره رئيس الحزب الفائز أولا، وكان نائبه الأول لحزب "قلب تونس" باعتباره الفائز بالمرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، وأما النائب الثاني فكان تعبيرا عن تحالفات بين قوى تشترك في "الحد الأدنى" السياسي أو الأيديولوجي.
تحاول حركة النهضة حتى الآن اجتذاب التيار الديمقراطي صاحب الكتلة الثالثة، وحركة الشعب صاحبة الكتلة الخامسة، كي يشاركاها في الحكم، ولكنها تجد صعوبة في إقناعهما بسبب شروط تبدو "تعجيزية" أو "مستحيلة"، رغم استجابتها لشرط مشترك بين كل الأحزاب، وحتى اتحاد الشغل، وهو ألا يكون رئيس الحكومة من النهضة.
صعوبة تحالف التيار الديمقراطي وحركة الشعب مع النهضة في حكومة سببه أن الأستاذ محمد عبو استمد (التيار) حجمه من تمايزه عن النهضة واستقالته من حكومة حمادي الجبالي في 2012 واتخاذه مسافة نقدية منها، رغم أنه لم يكن بحِدّة الجبهة الشعبية.
أما حركة الشعب فبينها وبين النهضة ملفان كبيران: "مؤتمر أصدقاء سوريا" و"من قتل الحاج البراهمي"؟ وهما ملفان تشتغل عليهما الحركة وتمارس بهما "التعبئة" ضمن صراع إقليمي، وليس فقط ضمن تنافس سياسي محلي.
وقد تابع التونسيون كيف استقبل قادة حركة الشعب الأستاذ راشد الغنوشي في مكتبهم (بطلب منه)، وأجلسوه متعمدين تحت صورة للزعيم جمال عبد الناصر، وحاول بعض مناضليهم توظيف الصورة توظيفا أيديولوجيا غير مناسب لمنطق الدولة؛ الذي يريده الغنوشي جامعا للفائزين في الانتخابات التشريعية.
حركة النهضة ظلت في وضعية غير مسبوقة من حيث صعوبتها وتعقيداتها، فهي بين أن "تميل" نحو المسكونين بأشواق الثورة وتستجيب لمطالبهم التي تبدو "مشطة"، أو أن تذهب إلى جهة تبدو "مرنة"، ولكن على حساب تعهداتها لمناضليها وناخبيها، فتدفع ثمنا في المستقبل قد لا يكون هيّنا. وها هي (فعلا) وفي توزيع المهام بالبرلمان تلجأ إلى أصوات حزب "قلب تونس" لتصعيد الغنوشي رئيسا له، مقابل تصعيد سميرة الشواشي (قلب تونس) نائبا أولا لرئيس البرلمان، وهو ما جعل كثيرا من مناضليها يغضبون ويعتبرون ذلك تنازلا عن وعد انتخابي بعدم التحالف مع الفساد.
جمهور النهضة في أغلبيته، وحتى بعض مناضليها، ما زالوا مسكونين بوهج أيديولوجي يشحنهم بروحية ثورية لا تكف عن إعلان المواجهة مع "الدولة العميقة" و"الثورة المضادة" و"المنظومة القديمة" و"السيستام"، وهو ما يبدو أن الأستاذ راشد قد تجاوزه نحو "منطق الدولة"، إذ يرى أن دخول البلاد "مسارا ديمقراطيا" يحتكم إلى الانتخابات؛ يتجاوز بها حتما "مسارا ثوريا" يحتكم إلى "المواجهة" بأي شكل من الأشكال.
3- حظوظ الاتفاق وصاعق التفجّر
رغم ما نتابعه من "عراك" بين أنصار النهضة من جهة وبين أنصار التيار وحركة الشعب من جهة ثانية، فإن حظوظ التوافق على حكومة مشتركة تبدو ممكنة، بالنظر إلى روح الوطنية التي يتميز بها الجميع.
مع التنبيه إلى أن فرضية نجاح الحركة في اجتذاب التيار وحركة الشعب (وأظنهما لا يتحركان إلا معا) لن يكون مأمون العواقب؛ لأن الطرفين يشتغلان على عناوين تبدو "أرفع" مما تشتغل عليه النهضة، وسينتهيان معها إلى خلاف مؤكد في كيفيات إدارة وزاراتهما؛ لأن النهضة ترى نفسها منذ 2011 مسؤولة قبل الآخرين ومعهم على "مصلحة تونس"، أيضا على التزامات الدولة تجاه شركائها الأجانب. وهنا قد تصطدم مع الشريكين المحتملين، وخاصة حركة الشعب المنتمية إلى محور في حالة حرب حقيقية مع من تعتبرهم "أصدقاء" حركة النهضة.
العقل "المرن" داخل النهضة يشتغل منذ مدة على "الواقعية"، وعلى "احترام إرادة الناخب"، وعلى التمييز بين "المسار الثوري" و"المسار الديمقراطي".
وهنا (وبناء عليه)، فإن قواعد النهضة مدعوون إلى "ضبط النفس". فكثيرا ما يُضطر الطيّار إلى إنزال طائرة الركاب بعيدا عن محطة أشواقهم ودقات قلوب حبيباتهم وأحبابهم.
ماذا لو تجاوز التقارب بين النهضة وقلب تونس قبة البرلمان ليمتدّ إلى تشكيل الحكومة؛ ليكون (التقارب) شوطا ثانيا من "التوافق" بعد مرحلة "الغنوشي/ الباجي"؟
قراءة في المشهد السياسي التونسي: الواقع والممكنات
لماذا تتعثر مفاوضات تشكيل الحكومة التونسية؟
هل تنتهي نتائج الانتخابات التونسية إلى أزمة حكم؟
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)