جلسة البرلمان التونسي الحوارية حول الدبلوماسية البرلمانية وحول اتصالات الأستاذ راشد الغنوشي برئيس الحكومة الليبية فائز السراج وبالسيد رجب أردوغان رئيس الجمهورية التركية، والتي امتدت من صبيحة الأربعاء (3 حزيران/ يونيو الجاري) إلى فجر الخميس، كان لها بُعدان: بعدٌ في الشكل وبعد في المضمون، وهما بُعدان متداخلان.
1- في الشكل:
هل كانت عبير موسى القادمة من تخوم "الديقاج" وعنوان "الأزلام" ومدرسة "المخلوع"، والتي خاضت حملتها الانتخابية على وقع التقريع والترذيل والسخرية، هل كانت تحلم بأن تكون ذات كتلة وازنة في البرلمان؟ وهل كانت تحلم بأن تكون ذات يوم صانعةً لحدث برلماني كبير يراقبه العالم ويُتابعه التونسيون؟
تحديد مكتب المجلس موعدا للنظر في عريضة عبير موسي ولعقد جلسة حوار حول الدبلوماسية البرلمانية، هو بحدّ ذاته اختراقٌ كبيرٌ للمناطق المحظورة على "الأزلام" في برلمان يريدُ أن يكون ثوريا ومنتصرا للقيم التحررية الجديدة.
أما أن تحصل عريضة عبير على 94 صوتا مساندا مقابل 68 معترضا فهذا أيضا ليس أمرا هينا، حين نعلم أن كتلتها ليست إلا 16 نائبا.
ما تلقته عبير موسي من وصْمٍ وتجريم وتذكير بماضيها لم يعد يفتّ في عضدها، لقد استشرست حتى صارت كما لو أنها تخلع الجلد الناعم لتلتحف جلد تمساح.
قاموس الخطاب ومنسوب الحماسة ومستوى الفوضى؛ مثلت كلها دليلا على كوننا لم نكن بصدد مناقشة وجهات نظر، وإنما كنا بصدد معركة كسر عظام وتخديش وجوه وإعادة انتشار سياسي وحزبي.
جلسة الأربعاء التي امتدت لتطل على فجر الخميس لم تكن جلسة عادية بكل المقاييس، ونتائجها يجب أن يقف عليها السياسيون بموضوعية وعقل بارد بعيدا عن العواطف والأحكام المزاجية.
2- في المضمون:
لا خلاف في أن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول هو مبدأ يتفق عليه الجميع في المطلق، ويمكنهم مناقشة تفاصيله في علاقة بالأمن الوطني والمصلحة المؤكدة لشعبنا حين تكون ثمة تهديدات حقيقية على حدودنا من قِبل أحد الأطراف المتصارعة، وحين يكون ذاك الطرف مرتبطا بمحور يعادي خيارنا الوطني ومسارنا الديمقراطي، ومنهجنا في التوافق والإصلاح، وجهدنا في التنمية والتحرر الوطني.
كيفياتُ ذلك وطرائقه يمكن أن يكون محل نقاش أيضا، حين نعرض مواقف رئاسة الجمهورية ومواقف رئيس البرلمان ورئاسة الحكومة، لا فقط لمقارنة التزام الصلاحيات، وإنما وأساسا للبحث عن أكثر السبل مرونة لتحقيق التعاون والتكامل ولاستجماع كل القُدرات من أجل تحقيق الأهداف الكبرى.
عريضة عدم التدخل وجلسة محاورة رئيس البرلمان حول الدبلوماسية البرلمانية ليسا موضوعين منفصلين، إنما هما وضعيتان متداخلتان في علاقة بالأستاذ راشد الغنوشي تحديدا، باعتباره رئيس حركة النهضة لا باعتباره رئيس برلمان، وباعتباره منافسا سياسيا لا باعتباره مزاحما في صلاحيات غيره.
كان يمكن معالجة المسألتين بهدوء وتحت قبة البرلمان، بعيدا عن محاولات تحريك الشارع وبعيدا عن رفع شعارات التخوين والترذيل، ودون دعوات إلى حل البرلمان أو سحب الثقة من رئيسه.
هناك عملية إخفاء نوايا وراء شعارات تبدو للمتابع كما لو أنها معقولة ومنطقية.
3- قراءة في النتائج:
- إذا اعتبرنا أن هدف عبير موسي كان "إسقاط" راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان، فيمكن لأصحاب هذا القول أن يستنتجوا أن عبير فشلت بعد أن بلغت محاولاتها الذروة، ولم يعد لها ما تفعل أكثر مما فعلت وأكثر مما تلقته من دعم داخلي وخارجي.
غير أن استنتاجا آخر يمكن أن يكون معقولا، وهو أن عبير استطاعت أن تنال "شرفَ" قيادة معركة "تهشيم الصورة" مع الغنوشي كأبرز زعيم سياسي في تونس وفي المنطقة العربية بكاملها.. استطاعت أن تقف معه "وجها لوجه" وأن تفرض حالة "اصطفاف" اضطراري في البرلمان، وهذا مبلغ ليس هيّنا ولم يبلغه قبلها إلا الباجي رحمه الله.
- "النيل" من مكانة الغنوشي وحضوريته وأمام رأي عام محلي وعالمي، سيقرؤه متابعون على أن الرجل يدفع من حسابه الخاص ثمن التجربة الديمقراطية، وأنه بهدوئه ورحابة صدره وقدرته على تحمل الأذى كان يقدم درسا تطبيقيا في التدريب الديمقراطي.
سيقول آخرون (وقد قيل) إنه يخسر بوضع نفسه في مواضع الصغار، وقد كان يسعه أن يحافظ على مكانته كمثقف ومفكر وزعيم سياسي وطني وعربي، غير أن طبيعة المرحلة السياسية في تونس وفي الإقليم قد تكون هي التي "فرضت" على الرجل مغادرة مكتب المثقف إلى ساحات الفعل والدفاع عن رؤيته ومشروعه.
4- مستقبل الائتلاف الحكومي:
التصويت على عريضة عبير موسي رئيسة الحزب الحر الدستوري كشف عن حقائق عديدة أهمها:
- أن بعض منافسي حركة النهضة لا يقبلون بمنافستها بآليات ديمقراطية إلا اضطرارا، وأنهم يوم تتاح فرصة الإجهاز عليها فلن يترددوا في التحالف مع أعدائها.
- أن الخدوشَ النفسية التي تخلفها المعارك الصغرى لا يُمكن أن تتأخر عن الانتقام في أول فرصة، وهو الحال مع حركة الشعب بعد "سجال" سابق مع أحد رموزه، وهو الدكتور سالم الأبيض، وكنت رأيته سجالا عبثيا.
- أن الائتلاف الحكومي لم يكن مبدئيا بقدر ما كان اضطراريا بل ومغشوشا، وأن نتائج التصويت ستزيده ضَعفا وبرودا وتوجسا، بل قد ينتهي إلى انهيار الحكومة قريبا، خاصة إذا "اقتنصَ" الفرصة لاعبون في المشهد يريدون أن يكونوا كبارا ويجدون أن النهضة تحجب عنهم طموحاتهم.
- أن صورة البرلمان بدت غير جيدة ولكنها ستظل أفضل ونحن نمارس الديمقراطية في أعلى سقوفها، دون خشية من تبعات موقف أو رأي، وأما عن النقائص الأخلاقية فيمكن تداركها بفعل التدرب الديمقراطي والتجريب "التوافقي".
- يردد العقلاء دائما أن السياسة ليست في قول ما نشتهي ولا في التعلق بالشعارات والعناوين الكبرى باسم "المبدئية"، بل إنها في التفاعل مع ما تقوله الوقائع ويعرضه الواقع. السياسة هي الحذر الدائم من السقوط، خاصة حين نكون مجبرين على الحركة فوق منزلق طيني ونحن نشهد هجوما محليا وإقليميا على تجربتنا التونسية التي ظلت كما فانوس مضيء وسط عاصفة وظلام.
twitter.com/bahriarfaoui1
تونس.. انسحاب تكتيكي وإعادة تمركز
الأزمة السياسية في تونس: الواقع والآفاق
تاريخ "المشروع الانقلابي" في تونس بعد الثورة
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)