مع تكشف المقابر الجماعية في ترهونة، كأحد الانتهاكات التي ارتكبتها مجموعات مسلحة تابعة للجنرال الليبي خليفة حفتر، يبرز التساؤل حول إمكانية ملاحقة الأخير دوليا كمجرم حرب.
وعقب بسط حكومة الوفاق الليبية سيطرتها على مدينة ترهونة في 5 حزيران/يونيو تم العثور على 11 مقبرة جماعية ونحو 107 جثث بمستشفى المدينة، ما دفع مكتب النائب العام الليبي لإصدار أوامر بالقبض على 20 شخصا من مجموعات "الكاني" أو ما يعرف باللواء السابع (التابع لحفتر)، حيث خضعت المدينة لسيطرتهم المسلحة منذ 2017.
ورغم أن بيان النائب العام في 14 حزيران/يونيو لم يأت على ذكر حفتر كمسؤول عن جرائم هذه المجموعة المسلحة، إلا أنه أوضح أن "تفاصيل الوقائع وهوية كل المتهمين بارتكابها ومن ساعد أو حرض على ذلك لا تزال في إطار سرية التحقيقات الجنائية (...) وما زالت مبررات السرية قائمة حتى تاريخه".
وقال مكتب النائب العام إنه على اتصال مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لملاحقة مرتكبي هذه الوقائع.
ولم تكن المقابر الجماعية وحدها مخلفات المجموعات المسلحة التابعة لحفتر، إذ تركت أيضا كما هائلا من الألغام الأرضية بمناطق غرب ليبيا أدت إلى مقتل 39 شخصا وإصابة 71 آخرين منذ 22 أيار/مايو وحتى الثلاثاء الماضي، بحسب مؤتمر صحفي لمسؤولين في طرابلس.
هل الأدلة القانونية كافية؟
يرى أستاذ القانون الدولي في جامعة مصراتة موسى القنيدي أن المسوغات والأدلة القانونية المتوفرة بين يدي حكومة الوفاق والأجهزة الأمنية والقضائية والنيابة العامة والادعاء العام العسكري تعد "كافية" لإدانة المجموعات التابعة لحفتر بارتكاب أعمال تصنف على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية وفق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
اقرأ أيضا: طرابلس: مساع دولية لتشكيل لجنة تقصي حقائق بجرائم حفتر
وفي حديثه لـ"عربي21" أكد الأكاديمي الليبي ورئيس منظمة نداء لحقوق الإنسان والتنمية المجتمعية أن المسؤولية المباشرة عن هذه الجرائم تقع بشكل واضح على خليفة حفتر، باعتباره من أعطى الأوامر بشن الهجوم على العاصمة الليبية طرابلس في 4 نيسان/أبريل 2019، وخرج عبر أكثر من بيان متلفز وأصدر عدة أوامر عسكرية تفيد بضرورة استخدام القوة العسكرية المفرطة في الهجوم".
وتسببت الأوامر العسكرية الصادرة عن حفتر في قتل العشرات من المدنيين وإصابة الأطفال وتدمير العديد من المستشفيات المدنية، قتل فيها أكثر من 30 طبيبا، وتشرد أكثر من 200 ألف شخص من العاصمة طرابلس. بحسب ما قال الخبير القانوني الذي أشار إلى "ضرورة إدانة حفتر باعتباره القائد المسؤول عن ارتكاب مثل هذه الانتهاكات".
ومن الناحية القانونية، فإن الصور ومقاطع الفيديو وتسجيلات الصوت ونتائج تحليلات الفرق الطبية التي كشفت عن المقابر الجماعية إضافة لشهادات الشهود والضحايا واعترافات بعض القادة الهاربين من مناطق سيطرة حفتر تعتبر كلها "مسوغات وأدلة كافية لإدانة حفتر والمجموعات المسلحة التابعة له، والتي أمرت النيابة العامة بالقبض على عدد منهم".
وقال القنيدي: "بعض المقاطع التي بثت عبر مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد أن هذه العصابة لم تتوان في ارتكاب أعمال القتل الجماعية ضد من يعارض سطوتها داخل مدينة ترهونة".
معيقات الملاحقة داخليا
ويشير الخبير القانوني إلى معيقات تجعل ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم داخل ليبيا "متعذرة حاليا"، ومنها أن المؤسسة القضائية في ليبيا بما فيها المجلس الأعلى للقضاء ومكتب النائب العام اتخذوا موقفا "غريبا جدا" من الانتهاكات التي وقعت مع بداية هجوم حفتر على طرابلس، باعتبار ما يحدث "حالة احتراب أهلي".
وترتب على ذلك "عدم اتخاذ إجراءات قضائية وتدابير فعالة يمكن أن تفيد في ملاحقة الأشخاص المسؤولين عن هذه الانتهاكات وإنصاف الضحايا".
ويقول: "القضاء الليبي والنيابة العامة لم تتخذ خطوات لجمع الأدلة الكافية وشهادات الشهود، ولم تقم بدورها على الوجه المطلوب الذي يتيح لها الملاحقة القانونية داخليا لمرتكبي الجرائم".
ويضاف لذلك، أن حجم الانتهاكات الكبير جدا والتي ترقى لتكون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لم ينص عليها قانون العقوبات الليبي ولا قانون الإجراءات الجنائية ولا حتى قانون العقوبات العسكري الليبي.
ومن هذه المعيقات أن "جهاز النيابة العامة والمؤسسات القضائية في ليبيا لا تمتلك القدرة الكافية لتحقق العدالة وإنصف المظلومين، بحيث تتمكن من القبض على كل الأشخاص المسؤولين عن هذه الانتهاكات، والذين يتواجدون حاليا في مناطق سيطرة حفتر، المدعوم من أطراف دولية وإقليمية"، لكن هذا لن يكون بصورة دائمة في ظل "عزم حكومة الوفاق بسط سيطرتها على كافة الأرض الليبية ما يمهد لإمكانية القبض عليهم" وفق ما قاله القنيدي.
اقرأ أيضا: السراج يطلب مساعدة أممية لـ"جمع الأدلة" بجرائم حفتر
وأوضح أن هناك أصواتا تعلو داخل المنظومة القانونية في ليبيا بضرورة إنشاء محاكم خاصة على غرار محاكم يوغسلافيا وروندا ولبنان، بحيث تتولى مسألة متابعة كل الانتهاكات التي وقعت ومحاسبة مرتكبيها.
المقاضاة الدولية والمطلوب ليبيا
وتأتي المطالبة بتشكيل محاكم خاصة، نظرا لأن "المحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم سوى كبار القادة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم، مما يعيق تحقيق العدالة الكاملة للمظلومين"، وفق القنيدي.
لكن الخبير القانوني يؤكد على أهمية التحرك باتجاه "المقاضاة الدولية"، في ظل العراقيل التي تحول دون تحقق ذلك داخل ليبيا.
ويقول: "التحرك للمنظومة القضائية الدولية أمر مهم بحيث نتمكن من منع ما يعرف بالإفلات من العقاب، وإنهاء انتشار ارتكاب الجرائم بسبب عدم تطبيق العدالة".
ويرى أن "بعض الدول الداعمة لحفتر خاصة فرنسا وروسيا، قد تشكل عقبة أمام إمكانية الملاحقة القانونية أمام الجنائية الدولية"، أو ربما يصطدم تشكيل لجنة دولية للتحقيق في الجرائم بـ"فيتو مزدوج من هاتين الدولتين".
ويبني توقعاته بعرقلة تشكيل لجنة دولية، على أنه "سيكون من السهل على أي لجنة التعرف على من ارتكب هذه الجرائم، خاصة أن المجموعة التي كانت تسيطر على ترهونة كانت تابعة بشكل واضح لحفتر، كما غير حفتر اسمها وأعطاها صبغة القوات المسلحة الليبية".
وتابع: "اللجنة ستتوصل إلى وضع خليفة حفتر كمجرم حرب، ما يجعل الدول الداعمة له في موقف حرج خاصة أمام دولها وشعوبها".
لكن ذلك "ليس مستحيلا إذا ما قامت حكومة الوفاق الليبية باتخاذ إجراءات قانونية حقيقية وفعالة للمطالبة بضرورة محاكمة خليفة حفتر وكل المسؤولين معه عن هذه الانتهاكات" وفق ما قاله القنيدي.
وعما هو مطلوب ليبيا لأجل ذلك، أوضح أن على حكومة الوفاق "التوثيق الفعال والكامل لكافة الانتهاكات، وتقديم الأدلة بشكل قانوني سليم للمحكمة الجنائية الدولية والتواصل مع مكتب المدعي العام للمحكمة، والاعتماد على التقارير الدولية خاصة تقارير الأمين العام لإدانة حفتر، ومطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بعقد جلسة على هامش دوراته بجنيف لإيضاح حجم الانتهاكات".
ومما يزيل العراقيل أمام محاكمة حفتر، وفق ما يراه القنيدي، أن "تتواصل حكومة الوفاق مع بعض الدول بشكل مباشر بما فيها فرنسا وروسيا، من أجل ثنيها عن استمرار دعم حفتر وقواته وإظهار مدى بشاعة الجرائم التي ارتكبها".
وطالب الخبير القانوني حكومة الوفاق أن "تسمح للمنظمات الدولية على غرار هيومن رايتس ووتش وأمنستي بالوصول للمناطق التي وقعت فيها الانتهاكات لتوثيقها".
ودعا "الوفاق" للعمل على وصول صوت الضحايا والمظلومين وعرض شهاداتهم على دول العالم والمحكمة الجنائية الدولية، وبذلك "يمكن إزالة العراقيل أمام محاكمة حفتر خارجيا" على حد تعبيره.
اقرأ أيضا: "رايتس ووتش" تطالب بتحقيق بارتكاب حفتر جرائم حرب
والثلاثاء، دعا رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، الأمم المتحدة إلى تقديم "المساعدة الفنية" لطرابلس في جمع الأدلة وتوثيق الانتهاكات لقوات خليفة حفتر.
وأعلنت الأمم المتحدة، الاثنين، أن بعثتها في ليبيا تتفاوض مع حكومة الوفاق، حول نوعية المساعدة الأممية التي يمكن تقديمها في التحقيقات حول المقابر الجماعية.
تجدر الإشارة إلى أن ليبيا ليست عضوا في محكمة الجنائية الدولية، إلا أنه ومنذ شباط/فبراير 2011 تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 1970 والقاضي بإحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي هذا الإطار، أصدرت المحكمة الجنائية في آب/أغسطس 2017، مذكرة قبض بحق محمود الورفلي، أحد أبرز قادة ميليشيات قوات حفتر، لارتكابه جرائم حرب، بإعدام أكثر من ثلاثين شخصا بدون محاكمات.
كما سبق أن أصدر قضاة المحكمة الجنائية في 2011 أوامر توقيف بحق الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ونجله سيف الإسلام، ورئيس مخابراته عبد الله السنوسي.
صدمة أممية من مقابر حفتر الجماعية بترهونة.. ماذا بعد؟
خطف النساء وقتلهن.. سلاح جديد تنتهجه مليشيات حفتر
نخب ليبية لـ"عربي21": تهاوي حفتر ضربة لأعداء "الربيع العربي"