1- حركة النهضة وسؤال الانتماء
حركة النهضة التونسية التي تعرضت لأعنف هجمة أمنية بداية التسعينيات واستشهد منها العشرات تحت التعذيب وسُجن منها عشرات الآلاف وهُجّر الآلاف؛ احتاجت وقتا طويلا لترميم "كيانها" نفسيا وذهنيا وتنظيميا، واحتاجت ولا زالت تحتاج طرح أسئلة حول مدى فهمها لطبيعة الشعب التونسي ومدى استعداده لاحتضان حركة ثورية أو حركة إسلامية تحديدا، وحول مدى تقديره لتضحيات أناس سُجنوا وعُذِّبوا وشُرّدوا بسبب رفعهم شعار الحرية والعدالة والهوية، وحول ما إن كانت تلك الشعارات هي فعلا مطالب عموم الشعب يثور الناس من أجلها ويموتون؟ أم إنها شعارات حزبية يرفعها أصحابها من أجل الوصول إلى السلطة، كما كان يتهمها النظام قبل 2011، وكما يردد الكثير من خصومها اليوم؟
لماذا لم تستطع حركة النهضة التونسية حتى الآن أن تتحول إلى مشروع تونسي يدافع عنه التونسيون ويعترفون لمناضليه بفضلهم في مقارعة الاستبداد وفي تحقيق حُلم الحرية والكرامة؟ لماذا عادت حملات التشويه ضد الإسلاميين بطرائق أسوأ وبأصوات أعلى وبدعم خارجي سخي؟
2- عودة خطاب التحريض والاستئصال
لم يكن أغلب المتابعين للمشهد السياسي التونسي يتوقعون أن يكون للحزب الدستوري الحر حضور مهم في الساحة وفي البرلمان، ولذلك لم يكن الحرص كبيرا على تمرير القانون الانتخابي الذي يمنع الأحزاب المورطة مع الاستبداد من المشاركة في انتخابات 2019. نتائج الانتخابات البرلمانيةالأخيرة كانت مفاجئة للجميع، حين أتاحت لحزب عبير موسي من الصعود بكتلة برلمانية هي الرابعة.
عبير موسي، سليلة حزب التجمع الذي حكم به ابن علي أكثر من عقدين، وهي إحدى أصواته في قطاع المحاماة وفي الحركة النسوية، لم تنس للتونسيين أنهم طردوا ذات شتاء 2011 زعيمها، ولم تنس للإسلاميين أنهم كانوا من أشد معارضيه، بل ولم تتحرر من عقدة كونها كانت شريكة في عذابات عائلات ونساء وأطفال من شُرّد أو سُجن أو استشهد أباؤهم وإخوتهم.
عبير موسي المعبّأة بالحقد التاريخي وبعقدة المجزرة ضد الإسلاميين تحاول إسكات "ضميرها" أو تبرئة نفسها أمام التاريخ، فتتقمص الإرث البورقيبي وتزعم الدفاع عن الدولة المدنية، وتتخذ من الإسلاميين عدوا لا تكف عن مهاجمته والتحريض عليه، بل ولا تتردد في المجاهرة بالدعوة إلى إخراجهم لا من الحكم فقط بل ومن البلاد أيضا.
فشلت عبير موسي هذا الأسبوع في عرض لائحة على البرلمان تهدف إلى وصْم "الإخوان" بـ"الإرهاب"، فاتجهت إلى شارع الحبيب بورقيبة تحشد أنصارها وتخطب فيهم خطابا حاقدا تحريضيا، ولا تكف عن النيل من الإسلاميين وعلى رأسهم الأستاذ راشد الغنوشي.
عبير موسي لم يعد خافيا على أحد أنها تتلقى دعما من جهات خارجية، وهو ما نلحظه من اهتمام بعض القنوات العربية بأنشطتها، وفي نفس الوقت من استهداف لحركة النهضة وأساسا للأستاذ راشد الغنوشي.
لماذا لا تتجه حركة النهضة إلى القضاء؟ سؤال يطرحه جمهور الإسلاميين وهو في حالة غضب من قياداته؛ يراهم مقصرين في تتبع أعدائهم قضائيا.
3- المعارك الكبرى والخصوم الصغار
لقد ظللتُ وما زلتُ أعتقد أن الإسلاميين قد أسسوا حركتهم على رؤية إحيائية للمجتمع وللأمة، رؤية فيها تصور للوجود وللحياة وللإنسان وللحكم وللقيم، وهو ما جعلهم دائما أقرب للناس لكونهم يشتغلون على الفطرة ويتحركون في بيئة خصبة، فكلما زرعوا حصدوا وحيثما تحركوا اتسعت لهم البيئة التونسية.
هذا التصور "الرسالي" يُفتَرض أن يجعل أصحابه "رسوليين" يشعرون بكونهم أصحاب رسالة تجاه الناس وليسوا أصحاب غاية لأنفسهم. الرسالية والرسولية تجعلان من صاحبيهما شخصية كفاحية إنسانية صبورة منفتحة، متجاوزة عن الأخطاء ومترفعة عن صغائر الأمور.
لقد كان الأنبياء والرسل مدرسة في بناء العمران البشري وفي إشاعة القيم وترسيخ الأخلاق لا من خلال النصوص والبيان، وإنما من خلال التمثّل السلوكي ومن خلال الاستقامة ومن خلال التعالي عن صغائر الأمور.
بعد تحربة أربعة عقود تقريبا، أعتقد أن ما يمكن أن يستخلصه الاسلاميون في تونس هو أنهم أكثر الأطراف المعنية بالحفاظ على أجواء الحرية والاستقرار؛ لأنهم هم الأكثر استفادة منها وفيها ببساطة، فهم لديهم ما يقدمون وما يشتغلون عليه وبه. ولأن البيئة التونسية هي البيئة المناسبة لمشروعهم الإحيائي، فهم يغرفون من تاريخ وحضارة وتراث وعقيدة يُقيم عليها هذا الشعب وينشدّ إليها. إنها بيئة مشتركة، غير أن أطرافا أخرى أساءت التعامل معها لسوء تقدير أو لقناعة هي بصدد مراجعات لا تتوقف.
دائما أصحاب المشاريع الإحيائية يكونون أرحب صدرا وأكثر صبرا وأعلى همّة، فلا يردون على الإساءة بمثلها ولا يجدون في ترفعهم ضَعفا ولا انهزاما، ولا يستجيبون لدعوات التحريض التي تزيّن لهم "المواجهة" مع المختلفين والخصوم والخاطئين.
أصحاب المشاريع الإحيائية لا يجدون "انتصارا" على ضحايا الجهل والتجهيل والضلالة والتضليل، إنما يجدون انتصارا كلما حولوا خصيما إلى شريك أو صديق، تماما كما كان يفعل الأنبياء والرسل والفلاسفة والمصلحون.
زمن الخصومات ليس أكثر من ساعات عابرة كحريق هشيم، أما زمن البناء الحضاري فإنه مكابدة وكدح وحفرٌ في الأعماق عن المعنى، ونحتٌ لملامح الجمال والكمال والشموخ والاعتدال.
من حق أي مُعتدى عليه أن يتجه للقضاء في هدوء، وتلك من علامات التمدن والتحضر، دون تحويل الأمر إلى معركة أيديولوحية يصطف فيه كتابٌ ومثقفون وإعلاميون وسياسيون وبرلمانيون ونقابيون وطلابٌ؛ وكأننا بصدد "حرب" لن تكون آثارها إلا مزيدا من الأحقاد ومن تبديد "زمن الثورة" و"زمن الحرية" في تقليب "النفايات" و"دَرْسِ الهشيم".
في الزمن السياسي الذي نحن بصدده، الإسلاميون مدعوون إلى الذهاب إلى المستقبل مُعَبّئين بالأمل والصبر، ومُجهّزين بالشجاعة وبالرؤية الاستشرافية الثاقبة. والبلاد مفتوحة على أكثر من منطقة نزاع، وفي كل النزاعات الإسلاميون هم المستهدفون.
على الإسلاميين ألا يستنفدوا طاقاتهم "القتالية" في معاركة الصغار، فثمة معارك كبرى قادمة عليهم ادخار طاقاتهم لمواجهتها.
twitter.com/bahriarfaoui1
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)