كتاب عربي 21

عودة المواطن والدولة المشخصنة.. المواطنة من جديد (45)

1300x600
من حكمة البشري النافذة أنه اخترع مفهوم الجماعة الوطنية الذي قدم رؤية نقدية مباشرة وغير مباشرة لأمرين؛ مفهوم الدولة القومية ونشأته في بلادنا من رحم الحقبة الاستعمارية مما جعله مشوشا في مضامينه مشوها في غاياته وخياراته ومقاصده. أما الأمر الثاني فهو مفهوم الدولة المركزية وترسيخ أدواتها بما أثّر على أدائها؛ وتحولت مع تواتر ممارساتها السلبية الى الدولة المشخصنة.

ولعل الحكيم قد أراد أن يوضح لنا إشكالية الدولة الحديثة؛ فاسترد مفهوم الوطنية الحقيقية كأحد أهم معايير الانتماء في مواجهة عدوان الخارج، مستندا إلى مفهوم الجماعة الوطنية بامتداداته التي تصب في عافية الكيان وشروط فاعليته. كما استرد المعنى السوي والقويم لجوهر مفهوم الدولة دورا ووظيفة، مستبصرا معاني الدولة المركزية ومغازيها التي تحولت في ظل سياسات استبدادية وفاشية الى الدولة المشخصنة؛ وهو أمر أشار إليه تيموثي ميتشيل في كتابه "استعمار مصر"، حينما أكد على مفارقة تتعلق بأن الدولة في بلادنا ورثت مفهوم وسياسات دولة الاستعمار أكثر من استشرافها معاني الدولة الحديثة المعاصرة الفاعلة، وأبقت على سياسات المعرض في المؤسسات والأشياء، فبدت تنسخ مؤسسات في شكل ديكوري أقرب للزينة والعرض والمعرض. أما على مستوى علاقات البشر والسياسات والمواقف، فقد تمثلت حالة "التمثيل" لأدوار ليست بالحقيقية أكثر مما تعبر عن حالة زائفة ومزورة.

يؤكد الحكيم البشري إشكالية الدولة القومية المركزية؛ إذ "ظهرت الدولة المركزية الحديثة، وقد بدأ ظهورها مع بدايات القرن التاسع عشر، ولكنه كان ظهوراً يجري في إطار ضرورات تحديث الجيش والاقتصاد والتعليم، استجابة للتحديات التي بدت، وكان ظهورها آنذاك يجري ضمن النسق الثقافي والحضاري الاجتماعي السائد.

ومع فشل تجارب محمد علي ومحمود الثاني ومن على شاكلتهما، أورثت هذه البنية الجديدة للدولة أهدافا أخرى تتعلق بتسويغ التغلغل الوافد من الغرب، وصارت مع نهايات القرن التاسع عشر وسيطاً يصل بين الحضارة الأوروبية وأبنيتها وهياكلها التنظيمية والثقافية وبين المجتمعات التقليدية. وكان لذلك - مع بداية القرن العشرين - تأثيره الكبير على التعليم والقوانين والنظم المؤسسية.

وكانت الدولة الحديثة تمسك بزمامها نخب من ذوي الثقافة الوافدة من الغرب، وهي التي ظهرت كبديل عن التكوينات التقليدية الآخذة في الانهيار، أو كتكوينات موازية لها، ولكنها مدفوعة بقوى الدفع السياسي والاجتماعي الحديثة.. جرت العلمانية عندنا لا بهذا المضمون الذي عرفه التاريخ الفكري الغربي، ولكنها جرت بما يفيد القطعية مع الأصول الفكرية والتراثية السائدة، واستلهام خلاصات فكرية وافدة غربية في مرجعيتها شاردة عن التطور الفكري في بلادنا.

من هنا ظهرت الدولة الحديثة المركزية منعزلة عن الجماعة مفروضة عليها من علٍ وخارجية عنها؛ أي أنها دولة "مفارقة" بالمعنى الفلسفي للفظ "مفارق"، وهذا أدى إلى عدة تجليات، منها:

تجاهل المرجعيات المجتمعية: فقد صارت منفصلة عن الأطر المرجعية السائدة في المجتمع والمكونة للجماعات البشرية والحاكمة للعلاقات والمعاملات، وصارت مهمتها التبشير بمرجعية جديدة.

تأكيد النزعة القطرية: صار من الأهداف الأساسية المتضمنة في أداء الدولة الحديثة أن تؤكد النزعة القُطرية الإقليمية، وأن تؤكد الوجه العلماني الوضعي للمشرب الفكري، لا ثقة بالمنهج العلماني الأوروبي، ولكن لأنه الوجه الذي يمكنها من امتلاك ناصية الشرعية واستيعاب المرجعية ذاتها، بحيث تكون هي المشروع والمرجع.

تصفية مؤسسات الأمة ووأد إمكانية تطورها ديمقراطياً وطبيعياً: وبهذا عملت الدولة المركزية الحديثة على تصفية المؤسسات التقليدية التي كانت تشكلها الجماعات الأهلية، وعملت على إنشاء مؤسسات اجتماعية حديثة لا تستمد شرعية وجودها من "الفكرة المجردة" السائدة بين الجماعات الأهلية، ولكنها تستمد هذه الشرعية من اعتراف الدولة بها وهيمنتها عليها، وكان هذا وضع نظم الجمعيات والنقابات الحديثة وغيرها. ومن هنا تفككت الجماعات الأهلية من حيث الانتماء ومن حيث كونها قوى متماسكة تفككت إلى أفراد. وهذا في ظن البشري "من أخطر ما هدد إمكانات التطور الديمقراطي وظهور التعددية الحقيقية والفعلية على المستويات الوسيطة".

ومن هنا، فإن عودة المواطن لا تكون إلا بخروج المواطنين من حالة، "وقد صاروا مبعثرين، أفرادا لا يجتمع الغالب منهم في تجمعات منتظمة، ولا يحيون معا بين ذويهم من أهل المهن أو الحرف أو الأقاليم أو المذاهب أو الملل أو العشائر. ونقصد بالتجمع المنتظم والحياة هذا التواجد الإنساني الجماعي الذي يقوم به الشعور بالتجمع والاتصال بجماعة ما. علينا أن ندرك العصيان المشروع كوسيلة لاستعادة دور الدولة وقوامها، والحكم وأسسه.

فالدولة المركزية حين تضرب التجمعات الأهلية والجماعات الفرعية إنما تقصد إلى أمرين: أولهما القضاء على الشعور بالجماعية أيا كانت، سياسية أو اجتماعية أو مذهبية أو إقليمية أو مهنية، وثانيهما القضاء على التعبير السياسي أو الاجتماعي خارج الغرف المغلقة، بالحركة الشعبية السلمية في أماكن العمل، وفي الشوارع والميادين وغير ذلك. وحينئذ لا بد أن يتجاوز الفعل الحركي السلمي المطلوب ما تحرص الدولة المركزية على منعه في هذين الأمرين، وما اعتاد الناس عليه بموجب منع الدولة أزمانا طويلة، وذلك بإحياء عوائد العيش في ظل الانتماءات الجماعية، وبإحياء عوائد التعبير الجماعي السلمي عن الموقف، ووسائل التعبير الجهير خارج الغرف والقاعات المغلقة".

"حين نجد دولة تجعل المواطنين في شتات داخل أوطانهم وفي عقر بلادهم، فلا بد من تلمس بوادر الخروج من هذا الشتات، ولا مخرج من حالة الشتات إلا بتجاوز أوامر قيادة الدولة المشخصنة، دولة الفرد الواحد. وهذا التجاوز لا يتأتى بالمطالبات وبالتوجه لهذه القيادة المشخصنة بما يطالب به الناس من تجمع، إنما يرد بالممارسة.

وفي مثل هذا الأمر تدرك الجماعات الوطنية أن الشرعية في التصرف والفعل الحركي لا ترد من قيادة فردية ولا من قراراتها، وإنما ترد من نظم المجتمع وما يكفله الدستور من رخص وحريات وتحري ممارسة الأفعال وحقوق الإنسان؛ بموجب الإقرار الجماعي بقيام هذه الرخص وإتاحة هذه الحريات. ويجري النظر إلى سياسات القيادات الفردية وقراراتها التي تمنع هذه الأمور بحسبانها من العقبات المادية الواجب تفاديها. والمهم في ذلك هو تطوير استراتيجيات الحضور والممارسة، والنظر إلى العقبات بروح التذليل لما يقبل التذليل. وكل ذلك في إطار صارم من السلمية في النشاط والعمل.. ومع تحمل نتائج العقبات المادية والصبر على نتائجها. ويحدث ذلك بالقليل المتتابع الذي يصير كثيرا، وتلك عبرة التاريخ."

الحاكم يظل فردا ما دام الناس أفرادا؛ و"المشكلة التي تواجه هذه الممارسة عادة هي أن الإنسان وهو فرد يستصحبه الشعور بالضعف وعدم الأهمية، ويستبعد أن يكون رأيه أو فعله ذا أثر في غيره. فحال الفرد الأعزل الوحيد وهو يواجه سلطة مؤسسة تتكون من جماعة منظمة ذات تشكيل هرمي يخضع لإمرة رجل واحد؛ هي أقرب لليتم ومعاناة القهر، لذلك لا بد من الخروج من هذه الحال. ولا بد من أن يعتصم الناس بالتجمع، فلن يشعر الفرد بقوته وبأثره إلا وهو في جماعة فاعلة؛ وأن قوة الجماعة هي أضعاف أضعاف مجموع الأفراد.

إن الطغيان لا يبقى قويا مدعوما إلا بقدر ما يكون الناس متفرقين، وهو يعرف جيدا من أول درس استوعبه في علم الطغيان أن مصدرا مهما لقوته عليهم هو الشتات الذي يحيون فيه؛ لذلك لا بد من تجاوز شتات المواطنين في وطنهم، ولا يبدأ هذا التجاوز إلا بالممارسة الفعلية فهي ما عليه المعول. ولا يظن صاحب عقل رشيد أن الحاكم سيعطي المواطن ما يقوى به المواطن على الحاكم، بل المبادرة والفعل هما الأساس، والقمع الذي يواجه به فعل التجمع الشعبي في مجالاته المتعددة والمتنوعة منتظر ومتوقع، وما دام بقي الفعل الشعبي ممارسا بتتابع واستمرار، ومع تحمل التكاليف المترتبة على ذلك، ومع التصميم على الالتزام بالممارسات السلمية الخالصة، فإن القمع هنا ما يلبث أن يؤدي إلى عكس النتائج المتوقعة منه، لأنه خليق به أن يعزل عامة الشعب عن أفعال القمع، وأن يفكك من تماسك أجهزة القمع ذاتها فيزداد التماسك الشعبي والتجمع الشعبي من جهة، ويزداد التفكك ويضعف الترابط بين إرادة الحكم وبين أجهزة التنفيذ، وبه تزيد المعارضة ويزداد عدم التعاون في العلاقة بين الحكم وبين الآخرين.

كسر الجمود وتحريك الماء الآسن لا يتم في ظل الدولة المشخصنة إلا بفعل شعبي يرد من خارج الإطار الرسمي المرسوم، من غير توقع ولا حساب، فيرجح كفة على كفة، أو يمسك هو بزمام الأمر حتى يقضي الله سبحانه أمرا كان مفعولا".. هكذا يرى البشري كيف تكون عودة المواطن فاعلا.

twitter.com/Saif_abdelfatah
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع