بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إلى إبعاد الجيش التونسي عن الحياة السياسية، فإنه قد أرسى ثقافة عسكرية، هي أبعد ما تكون عن الأدلجة والتسييس ومنطق الانقلابات الغالب على الجيوش العربية في مرحلة "الاستقلال" وبناء الدول الوطنية.
ورغم تدخل الجيش التونسي لقمع التحركات الاحتجاجية زمن بورقيبة (خاصة في 26 كانون الثاني (يناير) 1978 أو ما يُسمّى بـ "الخميس الأسود"، وفي "انتفاضة الخبز" سنة 1984)، فإنه ظل محتفظا بسمعة جيدة بين عموم المواطنين الذين كانوا واعين بالطبيعة "البوليسية" و"الجهوية" للنظام.
وقد رسّخت أحداث الثورة التونسية (أو على الأقل السردية المقبولة لها) تلك الصورة الإيجابية للجيش الوطني؛ بحكم عدم تورطه في دماء التونسيين وانحيازه المبكر للانتقال الديمقراطي، ورفضه التحول إلى فاعل سياسي.
قد يكون من الصعب فصل دعوات "العسكرة" ـ بشقيها الانقلابي الصريح أو الصلب، والانقلابي الناعم أو "الدستوري"ـ عن معطيين يرهنان الحياة العامة في تونس منذ التوافق على الدستور الجديد: من جهة أولى الألغام التي وضعها الآباء المؤسسون في الدستور وفي القانون المنظم للسلطات والقانون الانتخابي، مما حكم بفشل الانتقال الديمقراطي السياسي واستحالة الانتقال إلى الإصلاح الاقتصادي، ومن جهة ثانية التعارض الصريح بين الترسانة التشريعية الموروثة من الجمهورية الأولى وبين الدستور الجديد، أي عدم راهنية العديد من الفصول القانونية وعجز المشرّع ـ أي مجلس النواب ـ عن تغييرها؛ بحكم غلبة الصراعات الأيديولوجية وغياب أي مشروع وطني جامع. ولعل في مواصلة القضاء العسكري منذ الثورة النظر في العديد من الملفات التي تخص مدنيين، ما يعكس هذه الأزمة التشريعية والسياسية.
خلال جلسة الاستماع التي عقدها البرلمان، أشار وزير الدفاع التونسي السيد إبراهيم البرتاجي إلى هذه القضية بطريقة موضوعية؛ فقد ذكّر بأن القضاء العسكري هو "قضاء من الأقضية، مستقل دستوريا، ولا تنزع عنه صفتُه العسكرية الاستقلاليةَ"، كما ذكّر بأن الوزير هو جزء من السلطة التنفيذية التي لا يحق لها التدخل في مسار القضاء.
ولعلّ أهم ما جاء في مداخلته، إشارته إلى وجود نيّة لملاءمة النصوص القانونية العسكرية مع دستور 2014، وذلك لأنّ المنظومة القانونية العامة للعسكريين تحكمها "نصوص وقوانين وأوامر، لم تعد تستجيب اليوم لمتطلبات المرحلة أو تستوعبها".
ومهما كانت تلك النصوص التي تنوي وزارة الدفاع ملاءمتها مع الدستور الجديد، فإن تأخر مجلس النواب عن تقديم مبادرات تشريعية بشأنها، يدلّ على وجود خلل كبير في أولويات هذا المجلس، كما أن استمرار تعهد المحاكم العسكرية بالقضايا التي تهم حرية التعبير، يثير العديد من التساؤلات حول الاستقواء بالمؤسسة العسكرية لحسم الصراعات السياسية بين الرئيس قيس سعيد وخصومه في الحزام السياسي للحكومة.
ما يُحسب للرئيسين السابقَين محمد منصف المرزوقي والمرحوم الباجي قائد السبسي، هو توجههما إلى القضاء المدني، وعدم زجّهما بالقضاء العسكري لضرب خصومهما السياسيين. لكنّ الرئيس الحالي قيس سعيد اختار ملاحقة بعض المدونين وإحالتهم على المحكمة العسكرية،
بتوجهه إلى القضاء العسكري دون القضاء المدني، يُعدّ خيار الرئيس قيس سعيد "سابقة" في طريقة حسم النزاع مع خصومه السياسيين، فرغم وجود إجماع على حق الرئيس في مقاضاة من يتعمدون الإساءة إليه ونشر معلومات كاذبة، فإن التوجه إلى القضاء العسكري في قضايا التعبير مازال محل خلاف كبير بين عموم التونسيين.
ولعلّ ما يُحسب للرئيسين السابقَين محمد منصف المرزوقي والمرحوم الباجي قائد السبسي، هو توجههما إلى القضاء المدني، وعدم زجّهما بالقضاء العسكري لضرب خصومهما السياسيين. لكنّ الرئيس الحالي قيس سعيد اختار ملاحقة بعض المدونين وإحالتهم على المحكمة العسكرية، أي اختار تفعيل حقه الدستوري لتعديل موازين القوى بينه وبين خصومه؛ لأنه لا يوجد "نص" دستوري في مسألة منع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، و"النص" هنا هو بمعنى الكلام الذي لا يقبل إلا معنى واحدا لا يقبل التأويل. ولذلك قد يكون من المبالغة حصر الإشكال في رئيس الجمهورية ونسيان الدور المركزي للمشرّعين ـ منذ المجلس التأسيسي ـ في استمرار هذا الوضع الذي يُهدد بضرب حرية التعبير وبتسييس القضاء العسكري على حد سواء.
بالإضافة إلى مخاطر "تسييس" المؤسسة العسكرية وإقحامها في الصراعات العبثية بين الرئيس وخصومه، فإن التوجه إلى القضاء العسكري في قضايا تهم مدنيين وترتبط بحق النشر والتعبير، سيظل هاجسا يهدد التجربة الديمقراطية التونسية، ما لم يبادر المشرّع إلى حسم هذه القضية.
ولكنّ هذا الحسم يبدو بعيدا في المستوى المنظور بحكم التوازنات السياسية الحالية في مجلس النواب وبين النخب الفاعلة في تشكيل الرأي العام؛ فأغلب هؤلاء لا يتحركون من موقع مبدئي، بل من مواقع انتقائية لا نسمع لها ركزا، إلا إذا ما كانت المخاطر تهددهم أو تهدد "طائفتهم" الإيديولوجية وقواعدهم الحزبية، أما إذا كانت "الضحية" من خصومهم، فإن مواقفهم تترواح عادة بين التأييد الصريح والصمت المتواطئ.
ولعل وعي الرئيس وفريقه بهذه الحقيقة ـ حقيقة اللامبدئية الغالبة على أغلب النخب ـ، هو ما دفعهم إلى التوجه للقضاء العسكري لثقتهم بوجود "حزام سياسي" لهذا القرار، بل لأية قرارات أخرى قد تعيد هندسة المشهد السياسي، بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية العامة.
يا شُرفاءَ فلسطين ومقاوميها الأَبطال.. احذروا..
هل يتعامل الفقه مع المرأة كسلعة؟!
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية