يقوم المشروع الإيراني في منطقتنا العربية على تكتيكات ليست خافية، يأتي في مقدمتها تكتيك «الحُكم بالتحكُّم» وذلك بأن «تتحكم»طهران وميليشياتها في المنطقة دون أن «تحكم» وهو تكتيك يُمكّن «المتحكم» من حيازة «كعكة السلطة» دون أن يتحمل «عبء المسؤولية» لأن «المتحكم/الفعلي» يظل مختبئاً تحت ستار «الحاكم/الصوري» الذي يأتي عبر «الانتخاب الشعبي» فيما يأتي المتحكم عبر «الاختيار الإلهي» حسب الدعايات الثيوقراطية لمنظومة «التحكم المقدس» إذ يساعد هذا الأسلوب على ظهور المنظومة السياسية برمتها في ثوب ديمقراطي لا ثيوقراطي، رغم أن أولئك المنتخَبين لا تعود إليهم مقاليد السلطة الفعلية، التي يمتلكها شخص واحد غير منتخب من قبل «الإرادة الشعبية» ولكنه «مختار» من طرف «الإرادة الإلهية» وهذا ما يجعله مستحقاً للسلطات المطلقة التي لا يجوز للمنتخَبين الخروج عليها.
وقد طور رجال الدين في إيران هذا التكتيك داخل منظومتهم السياسية، وفي بنية الميليشيات الدينية المرتبطة بهم خارج إيران.
فداخل المنظومة السياسية الإيرانية يوجد المتحكم غير المنتخب، الذي يتمتع بسلطات مطلقة (المرشد) في مقابل الحاكم المنتخب الذي لا يتمتع بصلاحيات واسعة (الرئيس) والذي من أهداف انتخابه أن يتحمل عبء المسؤولية أمام ناخبيه، وأن يصد سهام الانتقاد عن المرشد الذي ينبغي أن يظل «مقدساً/معصوماً» من زلات رجال السلطة رغم ممارسته كامل السلطات والصلاحيات.
وخارج إيران اعتمدت طهران على ميليشيات صممتها على صورة النظام، مع فوارق بسيطة تراعي بعض الخصوصيات للمجتمعات التي أنشأت طهران داخلها تلك الميليشيات، مع الاحتفاظ بجوهر تكتيكات «الحكم بالتحكم» في بناء تلك الميليشيات المتحكمة، وفي علاقتها مع النُظم الحاكمة.
وفي كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان تمثل ميليشيات طهران بشكل أو بآخر سلطة موازية لسلطة الدولة بهذا القدر أو ذاك، وبشكل ينسجم مع التكتيك الإيراني في «الحكم بالتحكم» بحيث تحوز تلك الميليشيا في البلد المعني السلطة الفعلية عن طريق التحكم بالسلطة الصورية لحكومة هذا البلد، والتي يراد لها أن تظهر كالحاكم الفعلي في البلاد، وبأسلوب يجعل جميع المسؤوليات تقع على الحكومة/الحاكمة صورياً، فيما جميع السلطات في يد المليشيا/المتحكمة فعلياً في البلاد.
وفي لبنان على سبيل المثال يقوم حزب الله بدور المتحكم الفعلي في تفاصيل الحياة السياسية، في حين تلعب الحكومة اللبنانية دور الحاكم الصوري، وهو الوضع المثالي لسلطة المتحكم/ غير المنتخب (رغم وجود بعض التمثيل البرلماني للحزب) الذي يتمتع بالسلطة الفعلية، دون تحمل مسؤوليات هذه السلطة، في موازاة الحاكم/المنتخب الذي يتمتع بسلطة صورية تقع عليها المسؤوليات كافة.
وكما في لبنان، نسخت إيران نسختها اليمنية من ميليشيات حزب الله، حيث تتحكم ميليشيا الحوثي ـ المسماة «أنصار الله» ـ بالسلطة في صنعاء، رغم ادعائها شراكة حزب الموتمر الشعبي العام، ولكنها تحمل الحكومة اليمنية و«مؤتمر صنعاء» مسؤولية صرف مرتبات الموظفين وتردي الخدمات والفساد وغيرها من المسؤوليات، أي أن الحوثي المتحكم فعلياً في السلطة لا يتحمل عبء المسؤولية التي يجب أن تتحملها الحكومة/ الحاكمة صورياً في البلاد، والتي لا تتحكم بمقاليد السلطة ولا الموارد الاقتصادية في كثير من مناطق اليمن.
الميليشيات الإيرانية المعاصرة تتحكم اليوم بمصائر شعوبنا باسم «ثأر الحسين وأهل البيت» تارة، وباسم «الثورة» ضد «قوى الاستكبار العالمي» تارة أخرى، فيما الهدف الحقيقي ـ قديماً وحديثاً ـ هو السيطرة.
وما قيل عن الحالين في لبنان واليمن يمكن أن يقال عن الوضعين في العراق وسوريا مع قليل من التفاوت، ورغم ادعاء طهران أن حكومتي بغداد ودمشق صديقتان، إلا أن إيران سعت لإنشاء ميليشياتها في هذين البلدين، تحسباً لأي طارئ غير مريح قد يطرأ على علاقاتها مع الحكومتين في العراق وسوريا.
إن تكتيك إيجاد سلطة متحكمة موازية/غير منتخبة/ تملك السلطة ولا تتحمل المسؤولية إلى جانب سلطة حاكمة/ منتخبة/ لا تملك السلطة وتتحمل المسؤولية، هذا التكتيك مطَّرد بشكل واضح داخل بنية النظام الإيراني وفي البلدان العربية التي شكلت فيها طهران ميليشياتها على صورة هذا النظام مع بعض التفاوت النسبي.
ولعل هذا الأسلوب الماكر يستمد أنساقه الحيوية من تراث قديم، دأب عليه قوميون فرس بعد سقوط امبراطوريتهم على يد الفاتحين العرب في القرن السابع الميلادي.
فقديماً حاول أبو مسلم الخراساني (ينتسب إلى يزدجر الثالث آخر ملوك فارس) أن يشكل سلطة فارسية متحكمة وموازية لسلطة الخليفة العباسي أبي العباس السفاح وأخيه أبي جعفر المنصور، حيث تمكن الخراساني من مراكمة عناصر السلطة بين يديه تاركاً السلطة الحاكمة صورياً للخليفة العباسي، غير أن أبا مسلم دفع حياته ثمناً لانتهاج سياسة «الحكم بالتحكم» والتي حاول من خلالها أن يقيم كيانه الموازي لنظام خليفة/حاكم غير فعلي يستمد منه الخراساني مشروعيته ويعمل – في الوقت نفسه – على تقويض سلطته، وهو الأمر الذي جعل أبا جعفر يتخلص من أبي مسلم قبل أن يستفحل أمره.
غير أن محاولات القوميين الفرس بناء سلطة موازية داخل نُظم الخلافة المختلفة لم تنقطع، بل استمرت مع البرامكة (ذرية مسلمة لأحد كهنة الديانة المجوسية) الذين كانوا يشكلون سلطة قوية بموازاة سلطة الخليفة على أيام هارون الرشيد، قبل أن يحزم الرشيد أمره في التخلص من هذا «الكيان الموازي» في ما بات يعرف تاريخياً بـ«نكبة البرامكة».
ولما جاء البويهيون (المنحدرون من سلالة ملوك آل ساسان) شكلوا مثالاً صارخاً على توازي سلطتين في كيان الخلافة العباسية، وتلقبوا بلقب السلاطين، وحماة الخليفة الذي لم يعد له مع وجود ذلك الكيان الموازي المتحكم إلا حكم صوري، قبل أن تنتهي دولة البويهيين علي يد الغزنويين والسلاجقة، حيث حل الأخيرون محلهم في التحكم بالخليفة العباسي في بغداد في العصر العباسي الثاني.
قد لا يروق للكثير من المتابعين هذا الربط بين الكيانات الإيرانية الموازية التي تتحكم في بعض البلدان العربية اليوم والكيانات الفارسية الموازية، التي تحكمت في نظم الخلافة العربية قديماً، غير أن الوقائع تثبت أن القوميين الفرس ما فتئوا يحاولون استعادة الحضور الإمبراطوري القديم في المشرق العربي بتكتيكات جوهرها واحد، وإن اختلفت المسميات بسبب اختلاف الزمان والمكان.
وقد مثّل «التشيع السياسي» المظلة التي تحركت تحتها كل تلك الكيانات الموازية قديماً وحديثاً، فأبو مسلم وطّد سلطته بالتحرك ضد «الأمويين النواصب ثأراً لدم الحسين وأهل البيت» والبويهيون تحكموا باسم «دم زيد بن علي وأجداده» والميليشيات الإيرانية المعاصرة تتحكم اليوم بمصائر شعوبنا باسم «ثأر الحسين وأهل البيت» تارة، وباسم «الثورة» ضد «قوى الاستكبار العالمي» تارة أخرى، فيما الهدف الحقيقي ـ قديماً وحديثاً ـ هو السيطرة وإحياء أمجاد امبراطورية بائدة، ليست لها علاقة بالتشيع الديني العفوي لعلي بن أبي طالب، بل بالتشيع السياسي المؤدلج لعلي خامنئي وأوهامه الامبراطورية.