قضايا وآراء

أيُّ أفق للانتخابات الرئاسية التونسية في ظل "التأسيس الجديد"؟

"في ظل التوازنات السياسية الحالية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة رئاسية ثانية"- جيتي
بإصداره أمرا يدعو فيه التونسيين إلى الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، أنهى الرئيس قيس سعيد الجدل القائم حول إمكانية عدم إجرائها. ولكنّ هذا المعطى الإجرائي الذي كان في السابق من مشمولات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات -باعتبارها الطرفَ المسؤول دستوريا عن تحديد رزنامة الانتخابات وليس السلطة التنفيذية- لا يُنهي الجدلَ حول المناخ السياسي العام الذي ستُجرى فيه الانتخابات، خاصةَ مع الاستهداف الممنهج -في قضايا تآمر على أمن الدولة أو قضايا فساد وحق عام- لأغلب الشخصيات التي أعلنت عزمها الترشح للانتخابات أو لتلك الشخصيات التي يمكن أن تكون منافسا جديا للرئيس في حال ترشحها.

بصرف النظر عن التنقيحات التي طالت القوانين الانتخابية في شكل مراسيم رئاسية (المرسوم عدد 55 لسنة 2022)، وبصرف النظر أيضا عن تعديل القرار الترتيبي عدد 18 لسنة 2014 حتى يتلاءم مع مع الشروط الجديدة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية في الفصل 89 من دستور 2022، فإن للانتخابات الرئاسية رهانين أصليين يتوزعان بين السلطة الحالية وبين مجمل الشخصيات المعنية بالترشح، ويجعلان من إمكانية إجراء الانتخابات بصورة طبيعية أمرا مستبعدا.

فمن جهة السلطة، فإن إجراء الانتخابات يعني قبولها الاحتكام للإرادة الشعبية لتأكيد "التفويض الشعبي الأصلي" الذي حازته يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لتصحيح المسار بمحاربة الفساد السياسي والاقتصادي، أما من جهة المعارضة فإنها ترى في الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم والقطع مع تصحيح المسار -ومع فلسفته السياسية الرافضة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة- في إطار القانون وبمنطق التداول السلمي على السلطة.

إجراء الانتخابات يعني قبولها الاحتكام للإرادة الشعبية لتأكيد "التفويض الشعبي الأصلي" الذي حازته يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لتصحيح المسار بمحاربة الفساد السياسي والاقتصادي، أما من جهة المعارضة فإنها ترى في الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم والقطع مع تصحيح المسار -ومع فلسفته السياسية الرافضة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة- في إطار القانون وبمنطق التداول السلمي على السلطة

إن التعمق في هذين الرهانين يجعلنا نقف على تناقضات جذرية تجعل من إمكانية التعايش أو التنافس الطبيعي بينهما في ظل "تصحيح المسار" أمرا أقرب إلى المحال، ذلك أنهما يتحركان معا بمنطق التنافي أو النفي المتبادل. فالرئيس الذي لم يقبل بوجود "رجل ثان" في نظامه ولم يعين ناطقا رسميا باسم رئاسة الجمهورية، ولم يجد من يستحق أن يكون مدير ديوانه بعد إقالة السيدة نادية عكاشة، لا يمكن أن يقبل بوجود منافس من خارج مشروعه. ولا يبدو أن منطق "الأمانة" و"التفويض الأصلي" و"الوعي المهدوي" وغير ذلك من المفاهيم التي تحكم خطابه السياسي؛ ستجعله يرى في مشروعه مجرد عرض من العروض الممكنة (أي غير الضرورية) في سوق الأفكار السياسية. أما من ينافسونه من مواقع مختلفة، فإنهم حتى عندما لا يعلنون نيتهم محاسبة النظام الحالي ومساءلة رموزه أو العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، فإنهم لا يُخفون تمايزهم عن الفلسفة السياسية للرئيس ورغبتهم في إنهاء فاصلة "تصحيح المسار" بسبب فشله السياسي والاقتصادي.

رغم إعلان "تصحيح المسار" أنه يكتسب شرعيته من تمثيل الإرادة الشعبية بصورة تقبل الضبط الإحصائي -أي بصورة يمكن التأكد منها بمنطق الأرقام- ورغم أنّ هذا المعطى كان حقيقيا في المرحلة الأولى التي أعقبت إعلان "حالة الاستثناء" (أي مع تحويل الاستثناء إلى مرحلة انتقالية للتأسيس الجديد، خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021)، فإنه لم يتراجع عن خارطة طريقه ولم يُعدّلها بناء على تغير اتجاهات المزاج الشعبي في كل المناسبات التي عبر فيها عن نفسه (الاستشارة الوطنية حول التعليم، الاستفتاء حول تغيير الدستور، الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الأقاليم والجهات). فنسبة المشاركة المتدنية والعزوف الشعبي -بما يعنيه ذلك من عدم اقتناع أو رفض- لم تكن بالنسبة لرأس النظام إلا فرصة لتعميق الانقسام الاجتماعي وشيطنة خصومه لا محاورتهم.

ونحن هنا أمام منطق سياسي جديد لا يؤسس شرعيته على الأغلبية الشعبية (صناديق الاقتراع)، بل على "الأقليّة الصادقة" (الايمان بمشروع الرئيس). ولا شك عندنا في البنية الدينية العميقة لهذا الخطاب السياسي، ولكنها بنية دينية مهجّنة بحكم جمعها بين وعي "المهدي" أو "المجدّد" في المخيال الإسلامي (سفينة النجاة أو حبل الله الممدود بين الأرض والسماء)، وبين وعي "القائد الأممي" أو "الثوري" في المرجعية اليسارية، باعتبار "المجالسية" أو الديمقراطية المباشرة أحد تفريعات المدرسة الماركسية. فخصوصية الرئيس -أي مركز قوته/ ضعفه في الآن نفسه، وسبب صعوبة تصنيفه بالمعايير الحديثة في التصنيف السياسي تكمن أساسا في جمعه بين مرجعيتين مختلفتين وقدرته -إلى حد الآن- على إدارة التناقضات النظرية بينهما.

لو أردنا التعمق أكثر في رهانات الانتخابات الرئاسية، فإننا نرى أنها تطرح قضية "الصوابية السياسية" (Political correctness) لكن مع إجراء بعض التعديلات التي يفرضها السياق المحلي على معاني هذا المفهوم في سياقاته التداولية الأصلية. فإذا كانت الصوابية السياسية تعني في الأصل "اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع"، فإن "تصحيح المسار" قد أعاد هندسة هذا المفهوم لكن دون القطع مع أصوله فيما يسمى بعد 25 تموز/ يوليو 2021 بـ"العشرية السوداء". ذلك أن الجملة التي كانت تعتبر صائبة سياسيا عند أغلب النخب "الديمقراطية" (رغم أنها تستهدف جزءا معتبرا من المواطنين على أساس الهوية) هي تلك الجملة التي تشيطن حركة النهضة أو تدعو إلى إقصائها من مركز الحقل السياسي بتعديل الدستور أو حتى بالانقلاب عليه. كما أن الصوابية السياسية كانت مرتبطة بالتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة وتضخيم القضايا الهوياتية، والتقاطع الموضوعي مع محور الثورات المضادة.

واقعيا، لم يكن تصحيح المسار إلا دفعا بتلك "الصوابية السياسية" إلى نهاياتها المنطقية غير المقصودة أو غير المتوقعة عند أصحابها. فالرئيس جعل الصواب سياسيا هو إنهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية كلها؛ بديمقراطيتها التمثيلية ونظامها البرلماني المعدّل ودستورها ونظامها الانتخابي وأجسامها الوسيطة (بما فيها تلك الأحزاب والمنظمات النقابية والمدنية والهيئات الدستورية وغير الدستورية التي ساندته بحكم محدودية قدراتها الاستشرافية وحساباتها الانتهازية الضيقة). ولذلك فإن ما يفعله الرئيس من تضييق على معارضيه أو من بحث عن توفير أفضل شروط للفوز بالانتخابات هو أمر منطقي وذو "صوابية سياسية" حين نحتكم إلى الفلسفة السياسية لتصحيح المسار، بل حين نحتكم إلى التاريخ السياسي الانتهازي وغير المبدئي للأغلب الأعم من منافسيه المحتملين.

إن الإشكال الأعظم الذي يواجه منافسي الرئيس هو أنهم يتحركون بمنطق متناقض ذاتيا: نقد المقدمات والقبول بالنتائج. وقد يعترض علينا معترض بأن ترشحهم هو أمر يرتبط بـ"الواقعية السياسية" التي خفّضت سقف تحركاتهم من إسقاط النظام بالمنطق الاحتجاجي إلى محاولة تغييره عبر العملية الانتخابية (أي من داخل النظام وبشروطه). ولكنّ هذا الاعتراض مردود لسببين: السبب الأول هو أن المشاركة تعني الاعتراف بشرعية هذا النظام، كما تعني الاعتراف ضمنيا بتوفر شروط المنافسة النزيهة على الأقل في حدها الأدنى، وهو ما يجعل من أي اعتراض على النتائج أو تشكيك فيها من قبيل اللغو السياسي؛ ثانيا، إن العجز عن تقديم مرشح جامع لكل أطياف المعارضة هو أمر لا يرتبط بالتضييقات التي يسلّطها النظام على معارضيه أو على الشخصيات التي أعلنت عزمها الترشح. فأزمة المعارضة مردودة أساسا إلى الانقسامات الداخلية بين أطيافها الأساسية، وهي انقسامات تجعل من أغلب المترشحين (حتى لو قبلتهم هيئة الانتخابات، بل حتى لو جرت الانتخابات في ظل الشفافية وتحت رقابة قبة محلية ودولية نزيهة) غير قادرين على استمالة الناخبين بصورة جدية قد تهدد حظوظ الرئيس في الفوز.

في ظل التوازنات السياسية الحالية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة رئاسية ثانية. ورغم أن الانتخابات ستجرى في ظل منطق "التفويض" أو "الوكالة" التي لا تقبل السحب (بحكم طبيعة المشروع السياسي للرئيس)، فإن المترشحين لمنافسة الرئيس لم يستوعبوا بعدُ هذا الأمر

في ظل التوازنات السياسية الحالية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة رئاسية ثانية. ورغم أن الانتخابات ستجرى في ظل منطق "التفويض" أو "الوكالة" التي لا تقبل السحب (بحكم طبيعة المشروع السياسي للرئيس)، فإن المترشحين لمنافسة الرئيس لم يستوعبوا بعدُ هذا الأمر. ولذلك فإننا لسنا أمام "واقعية سياسية" بل أمام مغامرات سياسية لا يبدو أن أصحابها محكومين بمنطق الواقع بقدر ما هم محكومون بمنطق الرغبة. فكيف يمكن أن يتصور هؤلاء تخلي الرئيس عن "أمانته" أو عن "رسالته" أو عن "التفويض الأصلي" والقبول بأن يتنازل عن السلطة لأطراف هم عنده -بلا استثناء- من المتآمرين أو الفاسدين أو الطامعين في امتيازات الحكم؟ وكيف يمكن لمن يعتبر نفسه صاحب فكر سياسي كوني جديد أن يسمح لأصحاب الأفكار السياسية البالية (أي من يتحركون بمنطق الديمقراطية التمثيلية) بالعودة إلى مركز الحقل السياسي بعد أن انتهت الحاجة إلى أحزابهم وأفكارهم في زمن "الديمقراطية المباشرة"؟ بل كيف يمكن لشخصيات لا مشروع لها إلا العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 أن يطمعوا في الحصول على دعم شعبي واسع؛ والحال أن أغلبهم كان مساهما في إفشال الانتقال الديمقراطي وشيطنة الأحزاب والبرلمان ورفض التعددية وتسفيه الإرادة الشعبية وتغذية صراع الهويات وما صاحبها من عنف رمزي ومادي؟

إنها أسئلة قد لا تكون الإجابة عنها من أولويات المترشحين المحتملين لمنافسة "المترشح" قيس سعيد، ولكنهم سيرون الجواب عيانا بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، وكل آت قريب.

x.com/adel_arabi21