"
غزة كشفت الوجه القبيح والإجرامي للعدو الإسرائيلي"، بهذه الكلمات أعرب المدير العام لوزارة الصحة الفلسطينية بغزة، منير البرش، عن حزنه الممزوج باليأس والغضب، ممّا يواصل
الاحتلال الإسرائيلي اقترافه من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، في قلب القطاع المحاصر.
في قلب غزة، المباني قد سوّيت بالأرض والصوت الوحيد الصامد هو صوت القصف، لأكثر من عام كامل، مع بصيص أمل يُحاول الوصول للأهالي المكلومين من خلال قوافل المساعدات الإنسانية، لتولد معركة أخرى لأجل البقاء، ربّما أكثر قسوة من الحرب نفسها.
تجيب "عربي21" عبر هذا التقرير على سؤال: كيف يمكن للإنسانية أن تصل إلى قطاع غزة المحاصر، وسط ما يعيشه من الظروف المروعة؟
بين التحديات والقيود
مشاهد الدم في غزة لا تجف، وفي الساعات القليلة الماضية فقط، استشهد أكثر من 50 فلسطينيا في قطاع غزة، معظمهم من الجزء الشمالي، فيما واصل الاحتلال الإسرائيلي حرق ونسف عشرات المنازل، في كل من شمال وجنوبي القطاع.
أيضا، ذكرت وسائل إعلام فلسطينية، أنّ قوات الاحتلال أحرقت عشرات المنازل في محيط مسجد الخلفاء ومنطقة أبو حسين، بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة، وذلك جرّاء العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة في المنطقة منذ 5 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
وأمام بوابة مستشفى كمال عدوان شمال القطاع، استشهد كذلك ثلاثة فلسطينيين في غارة للاحتلال الإسرائيلي. وغيرها من المجازر المستمرّة التي يكابدها في ألم، سكان القطاع المحاصرين كافة، كل يوم، على مرأى العالم.
المشهد في غزة بات يتحدث عن نفسه، حيث آلاف المنازل دُمّرت، المستشفيات خارج الخدمة أو دُمّرت جزئيًا، والمدارس أضحت مسارح لآلام لا تعد ولا تحصى. وفي خضم هذا الدمار، تقف قيود الاحتلال الإسرائيلي، حجرة عثرة، أمام وصول الإنسانية.
رصدت "عربي21" على مدار أكثر من عام كامل، جُملة من الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الغزّيين، حيث ضرب عرض الحائط القوانين الدولية كافة، والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، ولم يرحم لا بشرا ولا حجرا ولا حيوانا.
كذلك، وفقا لعدّة تقارير سابقة لـ"عربي21"، فإن أبرز التحديات التي تعيق وصول المساعدات إلى قلب غزة، هي القيود الإسرائيلية على المعابر الحدودية؛ البداية من معبر "إيريز" الشمالي، الذي يُعدّ البوابة الوحيدة التي تتيح مرور المساعدات الإنسانية، بات يتعرض للتأخير والعرقلة، بشكل مستمر، جرّاء منع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أُغلقت المعابر أكثر من مرّة بمزاعم أمنية، ما تسبّب في ندرة وصول قوافل الإغاثة التي تحتوي على مواد غذائية وأدوية أساسية.
في السياق نفسه، قال المختص في القانون الدولي، عبد القادر العزة: "قطاع غزة يعاني من مأساة إنسانية حقيقية، فمنذ عدّة أشهر، والحدود مع الجانب المصري -معبر رفح-، مُغلق، وهو شريان الحياة لعبور المساعدات؛ وعلى الرغم من استمرار دخول بعض المساعدات، إلا أن الإغلاق تسبّب في تفاقم الوضع المتردي بالفعل".
وأوضح العزة، في حديثه لـ"عربي21" أنه: "لا يصل إلى المنطقة سوى قدر ضئيل من المساعدات، وقطاع غزة حاليا بحاجة لوصول إنساني آمن ودون عوائق، ومُستدام".
الطريق إلى غزة.. مسدود
عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وصل يومه الـ434، مع تزايد التفاؤل بخصوص التوصل إلى صفقة قريبة، تُنهي المجازر الوحشية المتتالية على القطاع المحاصر، التي خلّفت أكثر من 44 ألف شهيد.
ظلّت البنية التحتية لغزة، أحد الأهداف المُباشرة لقصف الاحتلال الإسرائيلي، إذ تمّ تدمير أكثر من 70 في المئة من شبكة الطرق، وذلك بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
التدمير الهائل الذي يعيش على إيقاعه القطاع المحاصر، أكثر من عام كامل، فاقم من صعوبة الوصول لسكان المناطق الأكثر تضررا. خاصة من المحاصرين في قلب شمال غزة، حيث إنّ وصف "كارثة إنسانية"، لم يعد قادرا على إبراز المشهد.
المساعدات تتأخّر بشكل مأساوي، خاصة جرّاء القصف المستمر. فيما أوضح المكتب الإعلامي في غزة، أن المساعدات التي تصل إلى القطاع تغطي أقل من 5 في المئة من احتياجات الفلسطينيين، الذين يتعرضون لإبادة وتطهير عرقي من قبل الاحتلال، مدينا جرائم الاحتلال بحق شرطة وعناصر تأمين المساعدات.
وأعلن المكتب أنّ: "جيش الاحتلال ارتكب مجزرة مدبّرة باغتيال 13 شهيدا من عناصر تأمين المساعدات، في إطار فرض معادلة تجويع المدنيين والأطفال والنساء، ليرتفع إجمالي عدد شهداء تأمين المساعدات إلى 722 شهيدا". توثّق عدد من المقاطع المُتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، تأكّدت "عربي21" من صحّتها، مشاهد الوصول الصّعب للمُساعدات الإنسانية للأهالي في قلب القطاع المحاصر.
"الاحتلال يستولي على المساعدات الإنسانية التي تصل إلى قطاع غزة"، تابع المكتب نفسه، عبر بيان، الخميس، مشيرا إلى أنّ: "بعض المؤسسات الإغاثية اضطرت لسحب طواقمها إثر الاستهدافات الإسرائيلية".
بدوره، أعلن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، اليوم الخميس، أنّ: "مؤشر غلاء المعيشة في قطاع غزة سجّل ارتفاعا حادا نسبته 490 في المئة، بعد مضي ثلاثة عشر شهرا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع".
عراقيل لا تنتهي
من جهتها، المنظمات الإنسانية، سواء كانت محلية أو دولية، باتت تعمل في خضمّ ظروف بالغة الصعوبة في غزة. أبرزها: الهلال الأحمر الفلسطيني، مع شريكته الصليب الأحمر الدولي، ومنظمة "الأونروا".. يبذلون جهدا مُضاعفا لتقديم الإغاثة، غير أن عملهم يتم عرقلته في الغالب من الاحتلال الإسرائيلي.
أوضح العزة، وهو حاصل على الدكتوراة في الحقوق القانونية والسياسية للاجئين الفلسطينيين، أنّ: "التدهور الشديد للوضع في قطاع غزة، هو نتيجة مباشرة للقيود الإسرائيلية المستمرّة أمام إيصال الإمدادات الأساسية من جميع المحاور المحيطة بالقطاع"، مردفا: "هذه القيود، خلقت بيئة من اليأس وعدم الاستقرار".
"في الحقيقة، كل دقيقة يتم فيها تأخير أو رفض إدخال الأدوية أو الإمدادات الغذائية، ومستلزمات النظافة، والأغطية البلاستيكية للخيام، تؤدي لانعدام الأمن الغذائي، ما يترتب عليه مجاعة حقيقية في الشمال، ومن الممكن أيضا أن تحدث في وقت لاحق، في الجنوب، في أسوأ السيناريوهات"، تابع العزة، في حديثه لـ"عربي21".
وتابع: "الشتاء والبرد والجوع والأمطار الغزيرة والفيضانات، كلّها تؤدي لزيادة الاحتياجات الإنسانية والطبية. في المقابل، تفرض "إسرائيل" إجراءات معقّدة لتفتيش المساعدات وقوافل الإغاثة، ما يتسبّب في تأخير دخولها، وأحيانا رفضها بالكامل".
الدعم النفسي ضروري.. ولكن
الحرب الشرسة التي يعيشها الغزّيين، لا تُحدث جروحا في الأجساد فقط، بل مسّت النّفسية. النساء والأطفال في غزة هم الأكثر تأثرا، حيث يعانون من اضطرابات نفسية حادّة مثل القلق والاكتئاب، لكن الرّجال أيضا، مسّهم الأذى، بات كل من على القطاع يُعاني من الأسى.
تواصلت "عربي21" مع عدد من الغزّيين، خاصّة ممّن يتداولون "يومياتهم" من قلب الحصار على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام"، اختلفت رواياتهم حول ما يشعرون به من حزن متواصل؛ لكنهم اشتركوا في عبارة: "ها نحن نحاول الصمود، ومجاراة الألم بتوليد الأمل، نحن شعب يستحقّ الحياة".
قال أحمد، ذو 35 عاما، من غزة، روى لـ"عربي21" مشاهد متفرّقة من الوجه الإنساني المأساوي، الآخر من الحرب التي يأملون أن تنتهي قريبا، بالقول: "أرى الأطفال هنا وهم يحلمون بالأمان، إنهم يبكون ويخافون بشكل مستمرّ، مع كل قصف عنيف تهتزّ أجسادهم فزعا".
وأبرز المختص في القانون الدولي، عبد القادر العزة: "هناك أجيال كاملة بحاجة للدعم النفسي، نتيجة حرب الإبادة الجماعية والحصار المستمر، خاصة الأطفال والنساء الذين يشكلون الفئة الأكثر تضررا"، مضيفا أنّ: "سكان غزة بحاجة لبرامج دعم نفسي خاص وشامل للتعامل مع الصدمات النفسية التي يعانون منها".
وأوضح: "مع استمرار الحرب، بالتأكيد من المستحيل تقديم هذا النوع من الدعم، وذلك لمجموعة من الأسباب الأساسية، منها عدم وجود المتخصصين والخبرات اللازمة، بالإضافة لعدم توفّر بيئة آمنة لتنفيذ هذه البرامج".
جهود المجتمع الدولي: هل تكفي المساعدات؟
على الرغم من بعض الجهود الدولية المستمرة، لا تزال المساعدات الإنسانية في غزة غير كافية، مقارنة بحجم الحاجة الماسّة. بينما أكّد عدد من المصادر المُختلفة، أن: "المساعدات المقدّمة، على قلّتها، تصل بشكل أكبر إلى المناطق القريبة من المعابر، فيما تظل باقي المناطق الأكثر تضررا، دون دعم كاف".
بينما يواصل عدد من المنظمات الإنسانية العمل في ظروف غير إنسانية، يبقى الضغط الدولي على دولة الاحتلال الإسرائيلي لوقف إطلاق النار وفتح المعابر مع تخفيف القيود، هو الطريق نحو حل جزئي لأزمة غزة الإنسانية.
وختم العزة، حديثه لـ"عربي21" بالقول: "رغم الجهود الدولية كافة لدعم قطاع غزة، إلا أن حجم المساعدات المقدمة أقل بكثير من حجم الاحتياجات المتزايدة للسكان. حيث يعتمد أكثر من 80 في المئة من الأسر على هذه المساعدات للبقاء على قيد الحياة، كما أن هذه المساعدات تبقى حلّا مؤقتا لا يعالج جذور الحرب".
تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتمدت بأغلبية كبيرة قرارا يطالب بوقف فوري ودائم لإطلاق النار في قطاع غزة، بأغلبية 158 صوتا، في الجمعية العامة التي تضم 193 عضوا.
القرار نفسه، يُطالب بوقف غير مشروط لإطلاق النار في قطاع غزة من قبل جميع الأطراف، والامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، فيما يتصل بالأشخاص الذين تحتجزهم، بما في ذلك الإفراج عن جميع المعتقلين تعسفيّا وجميع الرفات البشرية.
كذلك، دعا إلى الوصول الفوري للسكان المدنيين في قطاع غزة إلى الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي لا غنى عنها لبقائهم، مع رفض أي جهد لتجويع الفلسطينيين، وتطالب بتسهيل دخول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن، ودون عوائق.
هل سيتم تنفيذه عاجلا؟
إلى ذلك، لا يزال الأهالي في قلب قطاع غزة المحاصر، رغم كل الدمار والخراب، ينتظرون بصيص الأمل، أن يفتح المجتمع الدولي أبواب الإغاثة، التي قد تُنقذ حياة الكثيرين، في وقت تتصارع فيه الإنسانية مع آلة الحرب.