ملفات وتقارير

المشهد الاقتصادي في سوريا.. وضع معيشي متدهور ومساع حثيثة للنهوض

الملف الاقتصادي من أبرز التحديات التي تواجه السلطات الجديدة في دمشق- "عربي21"
تواجه الإدارة السورية الجديدة سلسلة من التحديات بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي استنزف على مدى سنوات طويلة مقدرات البلاد وتسبب في دخولها في حالة متردية على كافة الصعد، لاسيما الجانب الاقتصادي.

ويعد الملف الاقتصادي من أبرز التحديات التي تواجه السلطات الجديدة في دمشق، حيث أهمل النظام اتباع أي توجه اقتصادي يهدف إلى معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها البلاد بعد عام 2011.

وخلال سنوات الثورة السورية التي كرس الأسد ترسانته العسكرية لمواجهتها، تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على الـ 50 بالمئة بين 2010 و2020.

ودخلت سوريا قائمة الدول الأكثر انعداما للأمن الغذائي عالميا، وسط تقارير تشير إلى رزوح ما يقرب من 90 بالمئة من الشعب السوري تحت خط الفقر.

وعام 2023، شددت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا" على أن أكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بسبب تدهور الوضع الاقتصادي وتفاقم المأساة الإنسانية.

وعانى السوريون طوال سنين الحرب من تداعيات العقوبات الغربية المفروضة على النظام والتضخم الجامح والانكماش الاقتصادي وانهيار خدمات الصحة العامة ودمار المنازل وخطر تعطل البنى التحتية الحيوية، فضلا عن انهيار قيمة الليرة السورية بشكل غير مسبوق.

وأدت سياسات النظام المخلوع المالية والاقتصادية خلال العقد والنصف الأخيرين إلى تراجع قيمة الليرة السورية من 50 ليرة مقابل الدولار عام 2011 إلى مستويات تجاوزت الـ35 ألف ليرة مع بدء عملية "ردع العدوان" التي أطلقتها المعارضة في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قبل أن تنتهي بالإطاحة بالنظام.

وبعد سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عادت الليرة السورية إلى مستوى صرف يقرب من 14 ألف ليرة مقابل الدولار.

وألقى الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة الليرة بظلاله بشكل مباشرة على حياة السوريين اليومية، وتسبب انخفاض رواتب الموظفين إلى ما يقرب من 25 دولار أمريكي في ظل ارتفاع جنوني في الأسعار، إلى مأساة عميقة لا يزال السوريون يعانون من تبعاتها بعد سقوط النظام.

وتقول ريم الأحمد، وهي من ساكني دمشق، في حديثها مع "عربي21"، إن "الوضع المعيشي سيئ جداً بسبب الغلاء"، مشيرة إلى أن الطبقة المتوسطة بدأت تختفي أو اختفت بالفعل".



وقبل أيام، كشف وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال السورية محمد أبازيد عن توجههم لزيادة رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 400 في المئة الشهر المقبل بعد استكمال إعادة الهيكلة الإدارية للوزارات لتعزيز الكفاءة والمساءلة.

وتقدر كلفة زيادة الرواتب بنحو 1.65 تريليون ليرة سورية (نحو 127 مليون دولار بسعر الصرف الحالي)، وستُمول من خزانة الدولة الحالية ومساعدات إقليمية واستثمارات جديدة والجهود الرامية إلى فك تجميد الأصول السورية الموجودة حاليا في الخارج، حسب وكالة "رويترز".

وبحسب وزير المالية السوري، فإن "الحد الأعلى لرواتب الموظفين هو 25 دولارا (ما يقرب من 350 ألف ليرة)"، وهو ما يدل على أن "غالب العاملين في القطاع الخاص والعام أو غالب السكان ضمن سيطرة النظام سابقا كان تحت خط الفقر".

ويدل ذلك على عمق الفجوة ما بين دخل السوري الشهري وبين ما يحتاجه في الحقيقة لتأمين احتياجاته اليومية، بحسب تصريحات الأحمد التي أشارت إلى "احتياج العائلة أسبوعيا إلى مليون ونصف المليون ليرة سورية (110 دولارات تقريبا) من أجل تأمين احتياجاتها اليومية. وهو ما يساوي ستة ملايين في الشهر".

وتضيف أن "هذه الأرقام تظهر أن هناك فجوة كبيرة بين الداخل والخارج إلى جيب السوري في حال افترضنا أن الموظف يتقاضى في أفضل الأحوال نحو 400 ألف ليرة شهريا (28 دولارا تقريبا)".



ورغم ذلك، يرى عبد الله الحايك (اسم مستعار)، وهو موظف في وزارة التربية والتعليم، أن الزيادة المعلن عنها على الرواتب "مقبولة نوعا ما".

ويضيف مستدركا في حديثه مع "عربي21"، أن "هناك مخاوف لأن كل زيادة غالبا ما يرافقها تضخم في أسعار المواد الغذائية"، وهو ما من شأنه أن يعود بالسلب على الجميع.

ويوضح أنه لم يتم توزيع رواتب الشهر المنصرم على الموظفين بعد. وكان وزير المالية قال في تصريحات صحفية الأحد الماضي إن "رواتب موظفي القطاع العام ستصرف هذا الأسبوع".

ومنذ سقوط النظام، شهدت الأسواق تراجعا في أسعار المواد الغذائية والأدوات الكهربائية بفعل إلغاء الضريبة التي كان يفرضها النظام المخلوع بنسب كبيرة على المستوردات من أجل رفد مؤسساته المتهالكة.

وتشير ريم الأحمد إلى التحسن في الأسواق في حديثها مع "عربي21"، إلا أنها توضح أن الأمر يتعلق "بتوافر المنتجات والأدوية خاصة الأجنبية التي لم تكن تتواجد حتى في الصيدليات"، في إشارة إلى عدم قدرة كثيرين على تحمل الأعباء المعيشية حتى مع الانخفاض المشار إليه في الأسعار. 

ولا تزال المخاوف من ارتفاعات مفاجئة في الأسعار تؤرق السوريين مع الحديث عن زيادة مرتقبة لرواتب الموظفين في القطاع العام، وهو إجراء يرى الباحث الاقتصادي مناف قومان أنه "يحمل في طياته مخاطر، أحدها ارتفاع الأسعار".

ويقول قومان في حديثه مع "عربي21"، إن "أي رفع للرواتب في هذه الظروف السيئة سيخفف الأعباء الاقتصادية على المواطنين، ولكن عمليا قد يتسبب في ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الكتلة النقدية أمام ارتفاع الطلب على السلع والخدمات".

ويشير الباحث الاقتصادي إلى أن "التحدي هنا: هل سيكون هناك توازن بين حجم الزيادة في الراتب وحجم المعروض من السلع والخدمات في السوق؟"، موضحا أن "جواب هذا السؤال رهن الأسابيع والشهور القادمة، لأنه إذا لم يكن هناك توازن فستتبخر الزيادة في الرواتب من خلال زيادة في الأسعار وبالتالي ستنعكس سلباً على الناس".

ويلفت قومان إلى أنه كان "يتمنى أن تتمهل الحكومة 3 أشهر، وتتبع برامج أخرى لتخفيف الأعباء عن الناس وتحرّك أدوات السياسة النقدية من قبل الناس والانتظار حتى تنتعش الأسواق قليلا، والاهتمام بخفض الأسعار بدرجة أكبر. ولاحقاً، بعد أشهر يتم العمل على زيادة الرواتب بشكل تدريجي".

وتعد حكومة تصريف الأعمال التي يقودها محمد البشير، بالعمل على إنعاش الاقتصاد بشكل سريع، وهو ما ترافق مع اتخاذ إجراءات مثل قرار زيادة الرواتب ورفع الرسوم الجمركية.

ويرى قومان أن القرارات المتعلقة بالجانب الاقتصادي والتي اتخذتها الحكومة في سياق الطوارئ "تعتبر مناسبة"، لكنه يوضح أن "الوضع الاقتصادي صعب جداً ويحتاج لقدرات كبيرة تفوق قدرة سوريا والحكومة الجديدة وحدها".

ويضيف: "لدي تحفّظات على بعض السلوكيات مثل الشفافية، كعدم الخروج بمؤتمر صحفي من قبل المصرف المركزي أو وزير الاقتصاد والتجارة والمالية، أو ناطق باسمهم على الأقل، من أجل إطلاعنا على آخر الأرقام والإحصائيات والسياسات المتخذة".

وحول رؤيته للوضع الاقتصادي الحالي مقارنة بما كان عليه الحال قبل سقوط النظام، يقول الباحث الاقتصادي: "نحن الآن في مرحلة استكشاف الواقع المالي لإدارات النظام، وحجم الفساد المستشري في كل المؤسسات والمديريات، في ظل عدم توفر الإحصائيات على مدار السنوات الماضية".

ويشدد على أن "اتخاذ القرارات الصحيحة في المرحلة الحالية يتطلب ولا شك رقما صحيحا للبناء عليه"، مشيرا إلى أنه "في كل يوم يمضي في سوريا سنشهد تحسنا ملحوظا في الأوضاع الاقتصادية مع المضي قدما في الاستقرار السياسي وبدء مرحلة الإعمار والبناء".

ويأمل السوريون بعد سقوط النظام في تحسن الأوضاع الاقتصادية المتردية وارتفاع قيمة الليرة وانخفاض أسعار المواد الغذائية، وذلك وسط دعوات متواصلة لرفع العقوبات الغربية بشكل كامل عن البلاد بعد انهيار حكم الأسد من أجل تسهيل عملية التعافي وإعادة الإعمار ودفع العجلة الاقتصادية إلى الأمام.

وتقول الأحمد إن "الاقتصاد في سوريا في حالة تدهور تصل إلى الصفر دون مبالغة"، معربة عن "تطلعها إلى قرارات منصفة تعطي الأفراد حقوقهم بما يضمن للمواطنين حياة كريمة".